طفلي يكذب.. فماذا أفعل؟

  • 4/22/2018
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

ذات مرة وفي واحدة من الدورات التدريبية التي أقوم بها، كنت أتحدث مع المتدربين عن القدرة على الخيال وأثره في التفكير والإبداع، حيث إنه في الكثير من الأحيان نحتاج بصورة مهمة إلى كم كبير من الخيال للكتابة – مثلاً – أو في أي أمر يتعلق بالإبداع. في ذلك اليوم أوقفتني متدربة وقالت لي: هل يعتبر الخيال لدى الطفل كذبا؟ لم أفهم مقصدها، لذلك طلبت منها التوضيح، فقالت إن ابنها الصغير البالغ من العمر 3 سنوات يجنح به الخيال كثيرًا لدرجة أنه عندما يعود من الروضة فإنه يسرد لها أمورا -هي تعرف أنها لم تقع- ولكنه -أي الطفل- يقولها وكأنها أحداث حقيقية قد وقعت بالفعل. ثم قالت: أنا أعرف أنه يكذب، فماذا يمكن أن أفعل؟ هل أقوم بمعاقبته أم ماذا أفعل؟ في الحقيقة فأنا لست متخصصًا في سلوكيات الأطفال وعلم نفس الأطفال وما يتعلق بتربية الأطفال، وإن كانت بعض قراءاتي تتضمن ذلك، هذا على الرغم من أن بعض المشاركين قد بدأ يسهم بطريقة أو بأخرى ويفتي في هذا الموضوع، ولكني شخصيا لا أفضل الحديث في بعض الموضوعات التي أجد أني لست متخصصًا فيها، لذلك في نهاية تلك المناقشات قلت لها لنناقش الموضوع غدًا. وفي مساء ذلك اليوم ذهبت أبحث في موضوع الكذب وخاصة لدى الأطفال، فتبين لي وجود العديد من الدراسات والكتب التي تناولت هذا الموضوع بالتفصيل سواء باللغة العربية أو باللغة الإنجليزية، وكل هذه الدراسات والكتب تتناول الجوانب النفسية في موضوع الكذب لدى الأطفال، ولعل معظم الدراسات تتفق -من الناحية المبدئية- على أن الطفل في المراحل المبكرة من حياته أي قبيل سن المدرسة لا يعرف معنى الكذب ولا يمكنه أن يميز بينه وبين الخيال والمزاح والضحك وما إلى ذلك من تلك المصطلحات التي نعرفها نحن الكبار. لذلك يُعرف هذا النوع من الكذب العديد من العلماء بمصطلح «الكذب الخيالي» وهذا عادة يشار إليه أنه يتطور لدى الطفل في سن الخامسة عندما تتطور لديه القدرة على الخيال، فيبدأ بتخيل واقع يحاكي ميوله ورغباته وتفرده الشخصي، أي أن الخيال ذاته يختلف من طفل إلى آخر ومن بيئة اجتماعية إلى أخرى، بحسب الإمكانات التي يعيشها الطفل، وفيها يصبح الطفل أكثر مهارة في الكذب من خلال لغة الجسد والتمثيل، وهذا يجعله في موقف يطور عملية الكذب ويحاكي خياله الواسع بحكم أنه عندما يطرح القصص الكاذبة يتعرض للمزيد من الأسئلة والاستفسارات فيزداد حجم الأكاذيب وقد تتضح وتنكشف من دون وعي منه. وتشير بعض الدراسات التربوية الحديثة إلى أن طفل الرابعة يمكن أن يكذب مرة كل ساعتين ومن هم في سن السادسة يكذبون مرة كل 90 دقيقة وعندما يصلون إلى سن المدرسة يزداد الكذب لديهم ويصبح أكثر إقناعًا لارتباطه بتطور قدرة الخيال. وتشير بعض الدراسات إلى أن الكذب أو بالأحرى الكذب الخيالي يظهر عند الأطفال بعد سن الرابعة، ويبدأ بالتلاشي في سن الثانية عشرة إذا تمت معالجته تربويا بأساليب إيجابية، بعيدة عن أساليب التأنيب والتعنيف أو الحرمان، فهي أساليب تنمي سلوكيات الكذب، وتجعلها جزءًا دفاعيًا في ذات الطفل. وهذا النوع من الكذب لا خوف منه، إذ إنه يمكن معالجته إن استمر الطفل في ذلك بعد أن يتجاوز المرحلة الإعدادية (المتوسطة) أو الثانوية، ولكن ما يخيفنا نحن الآباء هو الكذب الذي يتعلمه الطفل منا نحن الآباء أو بسبب الآباء والمجتمع عندما يكذبون على بعضهم البعض، فعندما يشاهد الطفل والده أو والدته أو معلمه أو أي شخص يعتبر قدوة يكذب فإنه حتمًا سوف يعتبر ذلك أمرا لا غبار عليه وأن هذا هو السلوك الصحيح حتى وإن حاولنا أن نوضح له غير ذلك، فالقدوة والسلوك العام هو الذي يؤثر في الاتجاهات والقيم أكثر من المواعظ والنصائح، أو العقاب أو التهديد. ثم هناك نوع آخر من الكذب وهو الذي يعرف بمرض «ميثومانيا» والذي يعني إدمان الكذب وتضخيم الأمور من دون أي منفعة شخصيَّة حتى أن المصاب في بعض الأحيان لا يدرك أنه يكذب، وهذا مرض خطير ويجب معالجته بأي صورة كانت، وهذا موضوع لا نتحدث فيه في هذا المقال، وإنما لنحاول أن نعود إلى موضوعنا الأول والصغير الذي يكذب الكذب الخيالي. أشارت معظم المراجع التي قرأناها حول هذا الموضوع إلى أن الطفل لا يجب أن يعاقب، وإنما يجب أن تتم معاملته بطريقة تربوية نفسية، ففي كتاب الهمشري وآخرون (1417 هـ) الموسوم (الكذب في سلوك الأطفال) «يتضح مثل هذا الكذب في سلوك بعض الأطفال ممن يولدون ولديهم خصوبة في الخيال ونشاط فيه، وقد يكونون من ذوي اللسان الطلق، والنمو اللغوي السريع، فيكون لديهم الطلاقة اللغوية في التعبير فيبتدعون قصصًا خيالية لا أساس لها من الصحة، ولا ترتبط بالواقع، وغالبًا ما يكون ذلك الخيال انعكاسًا لمستوى عال من الذكاء. وتتضح قدرات هؤلاء الأطفال الإبداعية في كتاباتهم لموضوعات التعبير، وفي محاولات قرضهم الشعر وهم في سن مبكرة، كما تتضح في الرسوم الحرة التي يقومون بها؛ حيث يبنون عالمًا من الخيال وحداته ومفرداته من صنع أفكارهم. ولا ينبغي أن يتهم مثل هؤلاء المبدعين الصغار من الأطفال بالكذب؛ فقد يكون منهم المخترعون والمبتكرون في المستقبل، وإنما ينبغي أن نساعدهم على أن يدركوا أن للإبداع مجالاته في الفكر والفن والأدب بما لا يتعارض مع الواقع الحي الذي نعيشه في حياتنا اليومية، وأن الإبداع الفكري والفني والأدبي نعمة من النعم التي أنعم الله بها على بعض عباده ليسخروه في خدمة الإنسانية». ويورد عبدالعزيز القوصي في كتابه أسس الصحة النفسية (1981) هذه الحكاية حول نفس هذا الموضوع؛ وهي كالتالي: «كانت هناك ابنة صغيرة اعتادت أن تجلس إلى والدتها وتقص عليها حكايات غريبة عجيبة تدعي أنها حقيقة، وكانت تسترسل في حديثها استرسالا مشوقًا جذابًا يملك تفكير المستمعين وانتباههم، فأخذها والدها إلى العيادة النفسية لمعالجتها من هذا النوع من الكذب، فلما درس المتخصص النفسي حالة هذه البنت وجد أنها على مستوى عال من الذكاء، وأنها طفلة رائعة الخيال، طلقة اللسان، فوجّه والديها إلى أن يفتحا لها مجال التأليف أو التمثيل، ثم كان لها أثر ناجح في مجال التمثيل، كما ألفت رواية وقامت بإخراجها على مسرح المدرسة، وكان هذا فاتحة خير لمستقبل باهر لها». وعندما أبلغت هذه المعلومات للمتدربة ابتسمت وقالت: هل يعني ذلك أن ابني سيصبح له شأن في المستقبل؟ قلت لها: لم لا، المستقبل في علم الغيب، يمكن أن يصبح ابنك مؤلفا أو فنانا أو ممثلا أو مخترعا، أو ربما أي شيء آخر، لا تمنعيه من الخيال وإنما أطلقي له العنان ولكن لا تتركيه إلى ما لا نهاية، وإنما عليك التزام الهدوء، إذ لا يحسن أن نكره الأطفال على قول الحقيقة؛ لأن ذلك يجبر الطفل على الكذب مرة أخرى لينجو من الموقف. كما لا يجب أن نقول له «إنك تكذب» أو «إن الله لا يحب الكذاب» لأنه سوف يستمر في الكذب، وربما يكره الله سبحانه وتعالى ولا يكره الكذب، ربما يتحول الكذب بعد ذلك إلى جزء من شخصيته، وإنما يمكن أن نقول له، وخاصة إن كان يعرف الكتابة، اكتب ما تقول أو ما قصصته، أو ربما ارسم ما تحكيه، ليحول طاقاته إلى فعل إيجابي يمكن أن نستثمره كفعل وعمل مفيد. ومن خلال كل ذلك نحاول أن نوضح له أخطار الكذب وعدم قول الحقيقة، ويمكن أن نستخدم معه أسلوب التأديب المناسب، إذ ينبغي أن يعرف الطفل شيئين مهمين، هما: أننا نفخر به إذا أخبرنا الصدق، وأن الكذب يترتب عليه العقوبة، وخاصة إن بلغ من العمر السن الذي يمكن أن يعاقب فيه، وإن لوحنا بالعقوبة فإنه يجب أن ننفذ، ولكن لا نفضل أبدًا العقوبة القاسية وإنما لنجعل العقوبة مناسبة لعمر الطفل كأن نحرمه من التنزه أو من أكثر لعبة يحبها، وما إلى ذلك. ولكن يجب أن نتذكر دائمًا أننا نحن -الوالدين- قدوة للطفل، فإن تعاملنا مع الأطفال وفي محيط وبيئة الأسرة بصدق فإن الأطفال سيعيشون في بيئة يحيطها الصدق، ويمكن كذلك أن يحدث العكس. ثم أردفت قائلاً: يجب أن يعلم الوالدان أن تربية الأطفال ربما لا تكون بالعملية السهلة، ولكنها حتمًا ممتعة، وخير من يعرف الأطفال هم الوالدان، وخير من يتخذ القرار هم الوالدان، لذلك يجب ألا تتميز تربيتنا بطابع القسوة الزائدة أو اللين الزائد، وإنما يجب أن نمارس التربية بميزان حساس، فعندما نشعر بأن كذب الطفل وخاصة في السنوات المبكرة كذب خيالي فلندعه، ولكن يمكن أن نستشعر الخطر عندما يتحول هذا الكذب إلى مرض قد يتأثر به الطفل ويؤثر عليه ويصبح نوعا من أنواع الإدمان، ولا يمكن أن يعرف ذلك إلا الوالدان. وربما هنا انتهى الموضوع التي أثارته المتدربة، ولكن بقي هذا الموضوع في ذهني، وسؤال يتردد؛ ترى كم إبداع طفل يموت لأننا لا نعرف أن نتعامل معه؟ كم مرة استطاع الوالدان والمدارس أن تنمي كل تلك القدرات الإبداعية التي تعيش بين جنبات الأطفال؟ وهل فعلاً المدارس قادرة على استحواذ الطلبة المبدعين وتنمية مواهبهم واستيعابهم لبناء المستقبل الذي نطمح إليه؟ وأسئلة كثيرة، ربما لا أعرف الإجابة عنها، ولكن أود أن أعرف.

مشاركة :