سافرت هذا الأسبوع إلى مدينة ديربورن بولاية مشيجان لحضور مؤتمر حول التنوع، يقام تحت شعار «صور وتصورات». ركزت في مداخلاتي على التحديات الجسيمة التي أصبحنا نواجهها اليوم. فقد أطلق العنوان للقوى الظلامية القاتمة في مجتمعنا وقد باتت اليوم تهدد حتى فكرة أمريكا التي ناضلنا من أجل بنائها وتكريسها على أرض الواقع كما شددت على ضرورة النضال من أجل الحفاظ على صورة أمريكا التي تعبنا من أجلها. قبل مناقشة هذه المسألة أود في البداية أن أؤكد على أهمية ما قام به قادة الجالية العربية الأمريكية، والذين جمعوا في هذا المؤتمر المسؤولين المنتخبين ومسؤولي إنفاذ القانون والمؤسسات التعليمية وأجهزة الخدمات الاجتماعية وحشدا آخر من المنظمات الاثنية والدينية. قبل ثلاثين سنة من الآن، سافرت إلى مدينة ديربورن في ظل ظروف أخرى من أجل مخاطبة الجالية العربية الأمريكية والتي كانت تشكو الهشاشة وتواجه الكثير من الأخطار والتحديات. فقد أرسل المرشح لمنصب رئيس مجلس المدينة رسالة إلى كل منزل تقريبا يتحدث فيها عما اسماه «المشكلة العربية». لقد ندد ذلك المرشح في تلك الرسالة بتدفق أعداد كبيرة من المهاجرين العرب -والذين كانوا في تلك الفترة يمثلون نسبة 20% من سكان المدينة. لقد زعم ذلك المرشح أن المهاجرين العربية يدمرون أسلوب عيش الأمريكيين في مدينة ديربورن ولا بد للتصدي لهذه المشكلة. عندما خاطبت الجالية العربية هناك سعيت أولا إلى شحذ معنوياتهم وقلت لهم: «أنتم لا تمثلون المشكلة في ديربورن. أنتم تمثلون الصورة الواعدة في المدينة». على غرار الكثير من العرب الأمريكيين من قبلهم، فقد عمل أولئك العرب الأمريكيون الذين خاطبتهم بكل كد في حياتهم ونجحوا في مشاريعهم وعلموا أطفالهم، أنشأوا مؤسساتهم وأصبحوا يشاركون في الحياة السياسية والاجتماعية. لقد نجحوا في الحقيقة في تكريس صورة واعدة لمدينة ديربورن ولم يكونوا بالتالي «المشكلة العربية». يتولى أمريكي من أصل عربي اليوم رئاسة مجلس المدينة كما أن أغلب أعضاء مجلس المدينة هم أيضا من العرب الأمريكيين، فضلا عن العرب الأمريكيين الآخرين الذين انتخبوا كنواب عن ولاية مشيجان والعديد من القضاة المحليين. أصبح الكثير من أبناء الجالية العربية يلعبون أيضا أدورا قيادية في مجال مؤسسات وأجهزة إنفاذ القانون والتعليم والكثير من المؤسسات المدنية الأخرى. خلال ثلاثة عقود نجح أبناء الجالية العربية في تحسين أوضاعهم وتعزيز مكانتهم حتى استطاعوا التحول من وضعهم الهامشي إلى وضع آخر أصبحوا معه يلعبون دورا فاعلا في مدينتهم. والأهم من كل ذلك أن هؤلاء الأمريكيين من أصل عربي لم ينسوا الأوطان التي جاؤوا منها كما أنهم لم ينسوا ما عانوا منه من تمييز، لذلك فهم يجتمعون بشكل سنوي دوري في هذا المؤتمر المهم كي يناقشوا سبل القيام بدور قيادي فعال في تعزيز ونشر قيم التنوع ونبذ الإقصاء. لقد شددت مرة أخرى في المؤتمر الذي يعقد في مرحلة حساسة على مسألة تكريس وتعزيز نفس هذه القيم الجامعة لأنني أعتقد أن الولايات المتحدة اليوم تقف في مفترق خطير للطرق حتى أن هوية الولايات بأسرها باتت على المحك. هذه ليست بالمعركة الأولى التي نخوضها، فقد كانت هناك منذ البداية فكرتان متصارعتان حول هوية وصورة أمريكا، فقد كانت هناك من ناحية أولى رؤية أولئك المؤسسين والذين كانوا يتطلعون إلى بناء دولة منفتحة، جامعة وتأسيس مجتمع متسامح أيضا حيث ينعم الجميع بالحرية والفرص المتاحة. اصطدمت تلك الرؤية بالقوى الظلامية التي تكرس انعدام التسامح والتي تتشبث بالإبقاء على «آثامنا الأولى» من عبودية وإبادة واستيلاء على الأراضي وتطهير عرقي. رغم أن قوى الظلامية والتعصب قد هيمنت وفرضت نفسها في البداية فقد شهدت كل مرحلة من مراحل تاريخنا فئة من الناس الذين ناضلوا من أجل تكريس فكرة أمريكا التي تحتضن الجميع -ليس فقط الأمريكيين من أصل إفريقي وإنما كذلك المهاجرون من أصل لاتيني والسكان الأصليون ومختلف الجاليات الأخرى التي جاءت إلى أمريكا وعانت بدورها من التمييز والإقصاء، مثل الآسيويين والايرلنديين والايطاليين واليهود والأوروبيين الشرقيين والعرب. رغم الجهود المتكررة التي بذلت من أجل سد الأبواب في وجه الجماعات العرقية المتنوعة فقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية بلدا منفتحا ومضيافا. لقد نجح المهاجرون في شق طريقهم وتخلصوا من هشاشتهم وباتوا يلعبون دورا فاعلا. أثناء تحولهم إلى مواطنين أمريكيين أسهم هؤلاء أيضا في تطوير معنى أمريكا نفسها. ولنا أن نتساءل عن الصورة التي كانت ستبدو عليها أمريكا اليوم من دون إسهامات كل هؤلاء الناس الذين بنوا هذه البلاد. لنا أن نتساءل عن الصورة التي كان سيبدو عليها طعامنا وموسيقانا وفنوننا من دون إسهامات الأمريكيين من أصل إفريقي وإسباني والسكان الأمريكيين الأصليين، إضافة إلى موجات المهاجرين الآخرين الذين تدفقوا على البلاد. لم تنته المعركة أبدا بل إنها ظلت متواصلة، لأن جذور انعدام التسامح والتعصب عميقة وهي دائما تعيش معنا. يجب ألا ننسى هذا الواقع. عندما نسمع بعض الناس وهم يقولون عن نية لا تخلو من سذاجة يقولون إن الأعمال التي تنم عن انعدام التسامح والتعصب «هذه ليست أفعالا أمريكية» أو «هذه أفعال لا تعبر عنا» فإنني أجد نفسي مجبرا على الرد بالقول: «مع الأسف هذا ما نحن عليه وهو جزء من تاريخنا». إن ركزنا تفكيرنا فقط على أمريكا، الدولة المنفتحة والمضيافة، فإننا قد نذهب بكل بسهولة ضحايا لدعاة انعدام التسامح. يجب إذن أن نتذكر دائما أن دعاة الخير هم الذين كانوا دائما يفوزون في نهاية المطاف على قوى الظلام الأخرى. إننا نواجه في الوقت الحالي فصلا جديدا من فصول هذه المعركة من أجل تكريس فكرة أمريكا. فقد أطلت قوى الظلام من جديد علينا برأسها وراحت تعزف على وتر الخوف والتعصب. ينحى البعض باللائمة على الرئيس دونالد ترامب في تأجيج انعدام التسامح. هذا موقف يتسم بالسطحية والتبسيط لأن الرئيس ترامب لم يخلق قوى الظلام بل إنه أعطاها فقط زخما كي تطفو على السطح. لقد كانت قوى الظلام تعيش دائما بين ظهرانينا. الرئيس ترامب هو الذي أعطى لهذه القوى صوتا وأضفى عليها الشرعية وأوصلها إلى الساحة العامة. لقد استمرت معركتنا النضالية على مدى عقود كاملة من أجل دحر العنصرية وتكريس الحقوق المدنية ومحاربة التعصب وانعدام التسامح تجاه المهاجرين، وذلك بهدف تكريس التعددية الثقافية واحترام النساء، لذلك فإنه من الخطورة بمكان اليوم استهداف هذه المكاسب التي تحققت على مدى أجيال. لقد أصبح الأمر المؤسف مقبولا في فترتنا الراهنة. فعندما تستهدف النسوة للاعتداءات ويتم التقليل من شأنهن وعندما يهان المعاقون ويتعرض المهاجرون للتهديد والتشنيع فإن فكرة أمريكا التي كافحنا من أجلها تصبح مهددة. إن تسميم ثقافتنا ينعكس سلبا على كامل مجتمعنا. أما خطابنا الإعلامي فقد أصبح بدوره فظا، يزرع الانقسامات وينفث جرائم الكراهية حتى أصبحنا نشاهد اليوم أطفالنا وهم يكررون مثل هذه السلوكيات في المدارس وفي حياتنا الاجتماعية اليومية. الأمر يتوقف علينا كي نتصدى لتيار انعدام التسامح، كما فعلنا على مدى قرنين من الزمن، لذلك يجب أن نقول اليوم: «كلا، ليس هذا ما نطمح إليه، هذه ليست صورة أو فكرة الولايات المتحدة الأمريكية التي نريدها والتي كافحنا من أجلها. يجب أن نتصدى جميعا لهذا التيار، سواء من خلال منازلنا أو مدارسنا أو كنائسنا أو معابدنا أو مساجدنا ونقول معا: هذا لن يحدث». أنا متفائل بطبيعتي. لقد ناضلنا من قبل، كما أنني أعلم أن قوى الخير هي التي ستنتصر مرة أخرى في نهاية الأمر غير أن هذا النصر لن يتحقق بدوننا. هذا هو التحدي الحقيقي الذي نواجهه وهو ما يعكس مدى أهمية مؤتمر «صور وتصورات»، الذي جمع شخصيات بارزة ومعروفة بحرصها الكبير على تكريس الاحترام والتسامح. لقد التقينا جميعا وكلنا عزم على خوض هذه المعركة من أجل تكريس فكرة أمريكا المنفتحة، المتسامحة والمضيافة. أنا حقا فخور برؤية العرب الأمريكيين وهم يتصدرون هذه المعركة. { رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :