تستهوي تجارة بضائع لا تزيد عن حمولة «شنطة» شريحة واسعة من الشباب في الجزائر، بعدما فرضتها جملة التحولات الاجتماعية الطارئة، ووجد فيها بعضهم عملاً ممتعاً ومربحاً يتيح الأسفار والتنقل ويخلّصهم من روتين الوظيفة. مع بداية العام الحالي أوجد فئة من الشباب الجزائري، في تجارة «الكابة» أو الشنطة ملاذاً لهم ولآلاف غيرهم وحتى النساء، أكثرهم من متخرجي الجامعات، لإبعاد شبح العوز منهم ولو الى حين، حيث يوفّر لهم هذا النمط المتمثّل في جلب ملابس ومفروشات وأدوات إلكترونية من بلدان أجنبية، مردوداً يؤمّن دخلاً متفاوتاً بين شخص وآخر استناداً إلى قيمة معاملاته واتساع رقعة عملائه. تتراوح أعمار هؤلاء بين الـ20 والـ35 سنة، يسعون إلى توفير رأسمال صغير، يناهز الـ3 آلاف دولار، ليشدوا الرحال إلى مدن أوروبية وآسيوية، يعودون منها محمّلين ببضائع تسوّق في الجزائر. وقد يكون، الفارق الكبير بين الأسعار في الجزائر وتلك البلدان، مشجعاً ومجزياً فانتعشت «تجارة الشنطة»، بل وعادت بقوة إلى حياة الجزائريين منذ أن تلاشت مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية خلال تسعينات القرن الـ20، حيث تتصدر مدن الإمارات وهونغ كونغ وكوالالمبور وباريس الوجهات المقصودة، لاعتبارات عدة تلخّص خلفيات التوجّه نحو مزاولة هذه الأعمال التجارية، ويمكن أن نجملها وفق سعيد. ر في رواج البضائع المستقدمة من هذه المدن في أوساط بني بلده كونها ذات طابع سياحي فضلاً عن انخفاض تكاليف السفر والفنادق، ومرونة الإجراءات الجمركية وسهولة الحصول على التأشيرة. دبي أولى الوجهات ويطلعنا هذا الشاب الملقب في سوق الألبسة الرجالية بسعيد «النمس» على تجربته التي دخلها أخيراً، بعدما ضاقت به الدنيا بما رحبت، وقال: «غادرت المدرسة في وقت مبكر من أجل إعالة عائلتي، فامتهنت العتالة (حمال) في ميناء الجزائر العاصمة وبيع الخردوات وأشغال البناء، ومع أنها مهن تهدّ الجسد وعائدها المادي ضعيف. ولم أكتشف تجارة «الكابة» إلا صدفة عبر أحد المواقع الالكترونية الجزائرية المتخصصة في البيع والشراء، وتشجعت لخوض التجربة بمبلغ مالي صغير حصّلته من بيع حلي ذهبية لوالدتي». ويحكي «التاجر الصغير» سعيد كيف عاد من أول «سفرية» له من دبي محمّلاً بألبسة مختلفة كلّفته 1500 دولار، استأجر بعدها مستودعاً موقتاً. ولم تمض أيام حتى سوّق تقريباً البضاعة كلها، وقد ساعده في ذلك عرض عينات سلعه على المنصات الإلكترونية المتخصصة في التسويق الشبكي. وتابع أنه بعد خصم ما كلّفته الرحلة مع إيجار المستودع، وجد أرباحه تناهز 600 دولار وهو مبلغ يعادل راتب مدير مؤسسة اقتصادية في بلاده. وفي ميناء الجزائر العاصمة أو مطارها الدولي يكفي الوقوف لدقائق، في أي يوم من أيام الأسبوع، لملاحظة أن الحركة الدؤوبة لأشخاص تستهويهم تجارة «الكابة» ليس لها حدود وباتت تستقطب عدداً كبيراً منهم، على رغم من التضييق على نشاطهم في المطارات والموانئ، كما يكشف التاجر محمد. ف، فالوزن الزائد يكلف دفع أموال اضافي،ة لذا «استعين ببعض الجزائريين المسافرين العائدين معي في الرحلة واعتمد عليهم في تمرير قسماً من البضاعة». أما بالنسبة لعماد توات من مدينة العلمة (290 كيلومتراً شرق العاصمة)، المعروفة بتسمية «سوق دبي»، نظراً لكون غالبية سلعها منشأها دبي، فإن مطار الجزائر الدولي أضحى محط سفر لـ»تجار الشّنطة» والمعتمرين، كون نشاطهم لا ينقطع على مدار السنة، سيما و»أننا بتنا نملك علاقات متينة تحكمها الثقة مع المموّنين في البلدان المقصودة» وفق قوله. ويضيف أنه توفيراً للوقت والجهد، يسوّق بضاعته دفعة واحدة حتى يتمكن من السفر ثلاث مرات شهرياً. حيل وتحديات ومع أن تجارة الشنطة تبدو سهلة إلا أن تحديات جمة تسردها الوقائع بسبب انخفاض قيمة الدينار الجزائري بنسبة تقدرها الجهات الرسمية بـ33 في المئة منذ تهاوي أسعار النفط في حزيران (يونيو) 2014 إلى الشهر ذاته من العام الماضي، إذ ينعكس الوضع سلباً على التجار الصغار الذين يلجأون إلى استبدال العملة الوطنية بالعملة الأجنبية في السوق الموازية، حتى يتسنى لهم اقتناء السلع التي سترتفع أسعارها في المحلات. وأوضح تاجر «شنطة» آخر يملك محلاً في شارع حسيبة بن بوعلي بالعاصمة، أنه أضحى يتجنّب تقديم مبررات الارتفاع المتواصل في الأسعار لزبائنه الأوفياء. فثمن الحذاء الجيد الذي كان لا يتجاوز الـ 80 دولاراً قفز إلى 100 دولار، مشيراً إلى قراره تجميد نشاطه بسبب غلاء البضاعة، مع ما لمسه من إقبال كبير لزبائن الطبقة المتوسطة على السلع الرخيصة الثمن. ويؤكد تجار أنهم باتوا يجلبون من فرنسا أو إسبانيا مثلاً أو بلدان أوروبية أخرى، سلعاً من ماركات رخيصة الثمن تلقى رواجاً عند الفقراء، أما تلك الباهظة فيوفرونها «على الطلب» أي وفق حاجات زبائن محددين. ولا يتوقّف نشاط الشنطة العابرة للقارات عند حدود الألبسة والهواتف الخليوية والمجوهرات، بل يتعداه إلى المتاجرة بالأدوية و»البزنسة» فيها، على خلفية الندرة في عدد كبير منها منذ بداية العام المنصرم لاعتبارات عدة، أهمها فرض رخص الاستيراد على المتعاملين الاقتصاديين ومسوّقي الأدوية. ولهذا النشاط من يتقنه سواء من محلات الصيدلة أو تجار يأتون حتى بأكثر الأدوية طلباً. فباتت «الكابة» حلاً لمرضى كثر يعانون من أمراض مستعصية يتطلب علاجها أدوية من الخارج، وتحوّلت إلى عملة نادرة أخيراً. أدوية في «الشنطة» وسعد واحد من الصيادلة في العاصمة الجزائرية الذي يتولّى مهمة جلب الأدوية المفقودة والنادرة، التي لا وجود لها في الصيدلية المركزية، من فرنسا بسبب الحظر على الاستيراد الذي أقرته وزارة الصحة لتشجيع الإنتاج المحلي. ويأسف لوصف أطباء كثر لمرضاهم أدوية مفقودة في السوق، وهو بعدما يتلقى عدداً من الوصفات الطبية لأشخاص يبحثون عن أدوية نادرة يقصد فرنسا من حين إلى آخر لجلبها. ويوضح: «أجمع الوصفات الطبية التي يعطيها لي المرضى ثم أسافر إلى هناك وأحصل عليها وأوفرها لطالبيها بعد أن اضيف إلى أسعارها الأصلية هامش ربح طفيف»، وهو في نظره أمر عادي بسبب مجهوده في التنقّل. ويشير سعد إلى تحذير سابق من الاتحادية الجزائرية للدواء، بسبب خطورة الوضع الذي تواجهه سوق الدواء حالياً في ظل استمرار الندرة المسجلة في 210 أنواع، وتوقعها أن تصل الأمور أزمة كبيرة في الأشهر المقبلة، وتتوسّع دائرتها لتشمل أدوية جديدة. ولا تملك السلطات الجزائرية بيانات محددة عن عدد تجار الشنطة. ويطالب ممتهنوها الحكومة بعدم التغافل عن أوضاعهم، خصوصاً أن نشاطهم مدرج في خانة التجارة الموازية، ما يعدّ نوعاً من المغالطات يجب تصحيحها بسبب عدم امتلاكهم حقوقاً اجتماعية.
مشاركة :