نال فن الرواية قصب السبق في تمثل محن الإنسان بفعل الكوارث الجسيمة، وكانت أجواء الحرب محوراً لمقاربات السرد الروائي. ولا تترصد الأعمال الروائية ما يدور في جبهات القتال فحسب، كما لا تكتفي بنقل صور الأشلاء والقتلى من المدنيين والمُحاربين، وما حلَّ بالتجمعات البشرية من الدمار والخراب الذي يرقصُ عليه ملاك الموت، بل أكثر من ذلك... تراقبُ الرواية الانفعالات والعاهات التي تتبدى على سلوكيات الفرد حالما ينقشعُ الوهمُ وتصطدم الأحلام بواقع مرير وتتقوضُ الأطروحات التي بشّرت باختفاء النوازع الشريرة لدى الجنس البشري، مما يعني أنَّ معالجة هذا الجنس الأدبي وقائع الحرب ليست أحادية البعد ولا تتوقف في مستوى واحد دون غيره. إضافة إلى ذلك، ثمة دائماً مندوحة في توظيف التقنيات والأساليب بالنسبة إلى الكاتب الروائي لبناء عمله سواء باستفادته لِمُعاينته أو ما عايشهُ شخصياً أو من خلال اتكائه على مصادر أخرى. وفي الحالتين، لا يغيبُ عنصر التخييل الذي من دونه تفقد المادة المحكية صفتها الأدبية. تمتحُ الكاتبة الهنغارية أغوتا كريستوف موضوع ثلاثيتها «الدفتر الكبير، والبرهان، والكذبة الثالثة» من خزان ذكرياتها، وما مرت به حياتها من تقلبات خلال سنوات الحرب. تُشيرُ مؤلفة رواية «أمس» في مذكراتها المعنونة «الأمية» أنها كانت في الرابعة من عمرها عندما بدأت الحرب، من ثم تتحوّل الحربُ وما تخلفه من مظاهر غريبة والتباسات في الهوية نتيجة لمغادرة الأوطان وتبدل في جغرافية وطبيعة المكان ثيمة ثابتة في رواياتها. أضفْ إلى ما سلفَ أن القارئ لا يحتاج إلى عناء الجهودِ ليكتشفَ أن البنية المكانية التي تؤطر أعمال أغوتا كريستوف هي البلدة التي عاشت فيها الكاتبةُ ثُمَّ هجرتها، كما أن بطلي رواياتها الثلاث الطفلين التوأمين، يظلان مجهولي الاسم في الرواية الأولى «الدفتر الكبير»، ويعيشان في كنف الجدة بعدما يتغيبُ والدهما وتُصاحبُ الأم رجلاً آخر، ولا يكون قرار الابنة بأن تعهد بطفليها إلى الجدة سوى إجراء مسبق لحماية الصغيرين من مرارة الفاقة وإبعادهما من مخاطر الحرب التي استفحلت في المدينة الكبيرة. سرعان ما يتآلف الاثنان مع حياة البلدة ويتحملان قسوة تعامل الجدة، وهي لا تني تُناديهما بالشياطين. ما يهُم الكاتبةُ أن تقدمه عبر سردها حياة الصغيرين أن الأطفال في ظل الحرب يُحرمون من التمتع بحياة طبيعية ولا يشعرون بمزايا تلك المرحلة من العُمر. يرى لوكاس وكلاوس مقتل أمهما بقذيقة أمام بيت الجدة عندما تمرُ على الأخيرة لتأخذهما، وتغتال وحشية المُحتل الفتاة التعيسة خطم الأرنب، وتطلبُ أمها من كلاوس ولوكاس إحراق المنزل كونها مُعاقةً ولا تتمكن من العيش بغياب ابنتها، فيما تنتهي «الدفتر الكبير» بفراق الأخوين بعدما يَعبرُ أحدهما الحدود وتتناثرُ أشلاءُ الرجل المرافق لكلاوس بانفجار لغم. يبدأ الجزءُ الثاني من السلسلة بعودة لوكاس إلى بيت الجدة واستجواب الرقيب له عن هوية القتيل. الابن العاق على رغم معرفة لوكاس هوية الرجل القتيل الذي أراد عبور الحدود مع أخيه إلى الجهة المُقابلة فإنه ينكرُ هذه الحقيقة، ولا يُخبر الرقيب بأن الجثة هي لوالده، بل يحتجُ الابن بأنَّ ملامح الوجه صارت مشوهةً ولا يمكنُ التعرف إليها، ولا تنفع ملاحظة العسكري أن الملابس ربما تُساعدُ في معرفة الرجل وانتزاع أيَّة معلومة من لوكاس. كل ما نطق به الأخير أن الرجل ليس من مدينته. ويُلفت انتباه الرقيب أن أظفاراً منزوعة في يد الرجل، فما كان من العسكري إلا أن أكد للوكاس بأن لا أحد يُعَذّبُ في سجونهم. بهذا يتوقعُ المتلقي أنَّ الأحداث في رواية «البرهان» الصادرة عن دار «الجمل» 2016 لا تنقطعُ عما تابع في «الدفتر الكبير»، وأنَّ التحري عما يترسبُ من الندوب التي تركها العُنفُ على الصعيد النفسي لدى الناجين هو محرك العملِ وتبني عليه الكاتبة تشيكلتها السردية. تشتدُ حدة الحزن ويشعر لوكاس بوطأة غياب أخيه كلاوس ويحزّ في قلبه مصير والده. تُفضِّل الكاتبة أن تكون مواربةً وتحجم عن الغور في أعماق شخصياتها، لذلك يستبطنُ المتلقي أطوار الشخصية من خلال الحوار الذي يُعدُ ركناً أساسياً في مؤلفات أغوتا كريستوف، أو يتموضع في موقع الراوي مراقباً تصرفات الشخصية وتفاعلها مع الأحداث. بذلك تكونُ المشاهد إيحائية تُزخم الذهن بقوة تخيلية. فبدلاً من أن تكشف لك الكاتبةُ ما يعتملُ في صدر بطلها من الحزن مباشرةً، تعولُ على مشاهد حركية معبرة لإيصال الصورة: «لوكاس يحثُ خطاه. توقف أمام نافذة مضاءة مفتوحة. كانت نافذة مطبخ. اجتمعت أسرة حول مائدة العشاء، أم وثلاثة أطفال. ولدان وبنت كانوا يتناولون عصيدة تفاح، الأب غائب ربما هو في العمل أو السجن، أو الجبهة، أو لعله لم يعدْ من الحرب»... يوضح هذا المقطع لك مشاعر لوكاس وفقدانه دفء الأسرة من جانب وما ينقص سعادة الأسرة بغياب الأب من جانب آخر. وعندما يطلبُ الشيخ الضئيل في الحانة من لوكاس أن يعزف هارمونيكا يردُ الأخير بأنه لم يعدْ قادراً على العزف مثلما كان، إذ لا يسعه إلا أن يعزفُ لحناً حزيناً عن الحب والفراق. كذلك تستشف من المناخ أن من يرتادُ الحانة هم الجنود الذين يبحثون عن متع مؤقتة لدى الغانيات. تبرزُ أغوتا كريستوف آثار الحرب من كل النواحي ولا تتجاهل ظلالها على مستوى الحياة اليومية، إذ يشكو صاحب المكتبة فيكتور قلة الزبائن وركود سوق الكتب ويقارن الوضع في حواره مع لوكاس بما كان عليه الوضع قبل الحرب. كذلك لا يفوت الكاتبة الالتفات إلى صعوبة التواصل وانعدام النوافذ مع العالم الخارجي، وذلك بما تقدمه في سياق صورة مجازية لقضبان سكة حديد اجتاحتها النباتات البرية، فندرك أن البلدة باتت مُحاصرة بجغرافيتها. تتراكم طبقات الحزن في فضاء الرواية بانفتاحها على قصص شخصيات أخرى. ياسمين التي حملت من والدها العائد من الحرب وأنجبت ابناً معاقاً ماتياس، لا تجد ملاذاً إلا عند لوكاس الذي يتكفلُ بابنها وبعد مرور سنوات يعثرون على جثتها. يستخلص المتلقي من الحوار بين كلاوس وسكرتير الحزب بيتر بأنَّ لوكاس هو وراء مقتلها، وتتضاعفُ الأحزان عندما يسترجع مريض الأرق مايكل وهو كان مهندساً في المصنع قبل الحرب لحظة اغتيال امرأته ليتنسى لهم مصادرة أملاكها، ومن ثم يتحول البيت الذي يسكنُ فيه مع زوجته إلى ميتم، ولا يكتملُ المشهدُ بدون كلارا المرأة التي التهمت الحرب زهرة عمرها، وشاختْ عندما شنقوا زوجها ولا تمضي مدة طويلة حين تتلقى رسالة من القتلة يعتذرون فيها على أنهم أعدموا توماس بالخطأ. وليس مصير صاحبُ المكتبة فيكتور أقل بؤساً من غيره، فهو يبيعُ بيته ومكتبتهُ ويعود إلى المدينة الكبيرة ليعيشَ بجوار أخته، والأخيرة تحثه على إكمال مشروع تأليف الكتاب وتشتري له آلة الطباعة. لكن فيكتور يسرفُ في الشرب والتدخين ويوهم أخته الأمية بأنه يكتب بنقل الموضوعات من كتب أخرى وتحبير ورقات بيضاء. هو اعتقد بأن الإنسان ولد ليؤلف كتاباً، قد يكون كتاباً رائعاً، أو متواضعاً، ومن لا يكتبُ سيكون كائناً ضائعاً وبلا صفات. بيد أن هذه القناعة لن تُثمرَ شيئاً وتنتهي حياته بصورة مأساوية إذ ينفذُ فيه حكم الإعدام، بعد أن يخنق أخته، في نوبة هيسترية. تزدادُ سوداوية المشهد عندما ينتحر الطفل ماتياس أيضاً، ويتغيبُ لوكاس عن المشهد الأمر الذي يكون متواقتاً مع عودة كلاوس الذي يتسلم المدونة التي يكتبُ فيها شقيقه من بيتر. عالم ما بعد الحرب ما تستعرضه الكاتبة من خلال أعمالها، يُبينُ أن عالم ما بعد الحرب مُتهلهلُ هشُ لا يتعافي أفرادهُ من الآلام قبل مرور سنوات طوال، وأنت تنتهي من البرهان تتذكر ما قالته أغوتا كريستوف في «الكذبة الثالثة»: «الكتاب مهما كان كئيباً لا يكون بمثل كآبة حياة». وتتأكد بأن هذه الكاتبة اتخذت من الرواية منبراً لسرد حكايات طافحة بالحزن.
مشاركة :