أحلام البرج العاجي

  • 4/29/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في رواية نجيب محفوظ «خان الخليلي»، كان بطل الرواية «أحمد أفندي عاكف» دائم الجلوس على مقهى في الحي، حيث يجلس معه شاب مثقف؛ قارئ للفكر الماركسي؛ يتحدث بحماسة شديدة عن قضايا الجدلية والفلسفة المادية وأزمة الطبقات المجتمعية. كان «أحمد أفندي»- الموظف الحكومي الأربعيني- مشغولا بحبه لجارته الطالبة في المرحلة الثانوية والتي لم يتجاوز عمرها ستة عشر عاما، فكان يشرد كثيرا عن الكلام الحماسي الذي يتفوه به هذا الشاب المثقف، والذي يحمل كثيرا من التفاؤل المستقبلي، والتغيير الراديكالي لمصر في سنوات الأربعينات. ولكن «أحمد أفندي» شأنه شأن كثير من الموظفين والعامة، لا يعي كثيرا لهذا الطرح الإيديولوجي، فكان يتهرب كلما تحين الفرصة من مجادلة هذا الشاب، خاصة أن كل قضية أو سؤال يُطرَح، كان الشاب يتكلم فيه بحيوية، وكأن الدنيا ستتغير بعد سنوات قليلة، وسيكون المستقبل ورديا، ويصبح المجتمع من دون مشكلات.***إذا توقفنا عند صورة الشاب المثقف بكل حماسته، سنجد أنه يعبر بجلاء عن مرحلة في أعمارنا، ألا وهي مرحلة الشباب المبكر، حين تمتلئ النفوس بالعزيمة، وترى الحياة بنظرة مثالية، فترنو للمستقبل بآمال عريضة، وتتخيل أن جيلها سيحقق ما عجز عنه الآباء والأجداد، وأن الوقت في صالحه. وعندما نخرج إلى واقع الحياة، وتتتابع علينا السنون، ونرى تساقط نماذج من البشر، ظننا فيهم يوما القدوة والنموذج، أو نكتشف أن ظروف المجتمع وأحوال الشعب، ومستوى تعليمه ووعيه تتطلب عقودا وسنوات طويلة، فالتغيير لن يتم في يوم وليلة، ولا في عقد أو اثنين، وإنما يحتاج لجهود وإمكانات عظيمة، قد تعجز عنها الحكومات، وإن حققتها فإنها لن تكون كما يأمل المثقفون الحالمون. هذه المرحلة يمكن أن نسميها مرحلة «الأبراج العاجية»، التي يكون الفكر فيها منعزلا عن الواقع، فتكثر الأحلام فيه وتتعاظم الأمنيات، وكل هذا ناتج عن قلة الخبرة بالحياة والناس والمجتمع وبالمشكلات ذاتها. ***عندما كنا في المرحلة الجامعية، كانت أفئدتنا تمور بالعواطف، وعقولنا مترعة بالأفكار والتخيلات، وكان لي صديق مثقف، قليل الكلام، كثير النشاط، سألته يوما عن المستقبل، وكيف يتصوره؟ فضحك عاليا وقال: لقد خططت لمستقبلي، وأفكاري جاهزة، ومشاريعي قائمة، فقط أنتظر التخرج من الجامعة، حتى أحقق ما أريد، أنا لست مثلكم، أتكلم فقط، وإنما أحلم وأخطط وأزن مستقبلي بعقلي. سعدت كثيرا بكلامه، ولكن السنين- كالعادة- هي الخصم والحكم. لقد ظل صديقي هذا، ولا يزال، موظفا يتنقل من شركة إلى شركة، تبخّرت أحلامه تقريبا، أو بالأدق انحصرت في متطلبات الحياة اليومية، وهموم الأسرة، وما يمكن أن يجنيه من الوظيفة التي هي أضيق أبواب الرزق، والغريب أنه صار كثير الكلام، قليل النشاط، لأنه بات ترسا في ماكينة الحياة العملاقة، التي تجبرنا على السير في قوانينها، فمن أبى وتعنت، فليكن وحده بعيدا عنها، فهناك ملايين غيره يدورون في فلكها، ولن يضيرها يوما أن يتخلف عنها واحد أو مئة أو ألف. وهذا ما يمكن أن نسميه مرحلة «القصور الرملية»، التي تتهاوى فيها الأحلام العاجية، وتتحدر من عليائها، لتستقر عند صخور السفح، وسرعان ما تتحطم وتتلاشى. فهي أشبه بالقصور التي يبنيها الأطفال على شاطئ البحر، من رمال الشاطئ، ويظلون ساعات يشيدونها، وعندما ينتهون يضحكون أو يتعاركون، وفي الحالتين يدوسون عليها بأقدامهم، قبل أن يدوس عليها غيرهم. إن الحلم يظل جميلا وإن لم يتحقق، يكفي أنه يعطينا دفعة تجعل للحياة طعما ولذة، ولكن انتبه، إذا أردت أن تحلم فعليك أن تهبط من البرج، وتعيش بين الناس، وما أجمل كلمات أغنية محمد منير، التي سطّرها الشاعر عصام عبد الله: لو بطلنا نحلم نموتلو عاندنا نقدر نفوتلو عدينا مرة خلاصلو ردينا ضاع الخلاصحبة صبر، حبة حماس يبقى الحلم صورة وصوتلو بطلنا نحلم نموت* كاتب وناقد مصري

مشاركة :