تقدّم علوم البيولوجيا يثير أسئلة فلسفية

  • 5/1/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

ترافق التطوّر في علوم الجينات على غرار استنساخ النعجة «دوللي» والتعرف إلى شيفرة الجينوم لدى البشر ومجموعة من الكائنات الحيّة، وتفكيك الشيفرة الوراثية لمجموعة من الكائنات الحيّة، مع بحوث فلسفية كثيرة، يميل الظن إلى أنها ليست كافية. وأولت عقول مفكرة اهتماماً بمراجعة طروحات فلسفية كثيرة في شأن الإنسان، خصوصاً المقولات المتصلة بالحرية. تؤكّد البيولوجيا على نوع من الاستمراريّة بين العالمين الحيواني والإنساني، ما يفقد الأخير فرادته وأفضليته كونياً، إضافة إلى هزّ صورته ككائن له إرادة حرّة. وسبق أن تحدثت النزعة المادية في الفلسفة، عن تلك الاستمراريّة، في ما شدّد أصحاب الاتجاه الروحي على الفارق نوعيّاً بين الإنساني والحيواني. وطريّ في الذاكرة، تلك المناظرة المثيرة التي تواجه فيها الفيلسوف الفرنسي لوك فيري، مع عالِم البيولوجيا جان ديديه ڤانسان، حول «ماهية الإنسان». ووُثّقت تلك المناظرة في كتاب صدر في باريس في العام 2008. وعرض فيري نصاً لجان جاك روسو يبيّن فيه بجلاء الفوارق بين الإنساني والحيواني. إذ أورد روسو أنه إذا أخذنا حمامة (وهي من صنف آكلة الحبوب) واحتجزناها مع قطعة من اللحم، فأنها تقضي جوعاً، ويحدث الأمر نفسه إذا وضعنا قطة مع كومة من القمح. ويتميَّز الإنسان بميله إلى خرق القاعدة التي وضعتها الطبيعة. ودعم فيري رأيه بالإشارة إلى مشاعر كالكره والخبث والشر، إذ لا معنى لها في عالم الحيوان الذي يتبع غريزته حصرياً. وأوضح أن الإنسان وحده ينفصل عن الطبيعة ويُغالي في ازدرائها. إذاً، تكون الحرية ميزة الإنسان وفاقاً لرؤية فيري. آليات مشتركة للانفعال في المقابل، مال عالِم البيولوجيا فانسان إلى التأمل في الإنسان عبر انفعالاته، مشيراً إلى تقاطع بين البشر والحيوانات في الآليات البيولوجية المتصلة بها. كذلك جعل فانسان من مصطلح «بيولوجيا الانفعالات» عنواناً لأحد مؤلفاته، مشيراً إلى أن مشاعر البشر والحيوان «تتشارك» آليات عصبيّة- انفعاليّة كـ «الانعكاس الشرطي» Conditional Reflex الذي يحدث عبر تفاعل بين هندسات عصبية وإفرازات هرمونية. وأظهر فانسان أيضاً رغبته في الانتهاء من الثنائيات التقليدية كتلك التي تضع «العقل» في مقابل «الدوافع» (= الدماغ مقابل القلب). ورأى أن الإنسان ليس ذهناً محضاً ولا كياناً حيوانياً، بل مزيج متنوّع بينهما. وكذلك مال إلى القول إن الإنسان يذهب في انفعالاته إلى درجة الشغف، الأمر الذي يجهله الحيوان، ما يجعل الشغف محلاً أولاً للحرية. ولاحظ أن آليّات تطور الإنسان سمحت باعتماد وسائل تكرّس استقلاله عن محيطه، فتصبح حياته مساراً لتحقيق الحرية. استطراداً، يكون الإنسان وفق تلك الرؤية «حيواناً» لكنه يتفوق بامتلاكه ملكات استثنائية كاللغة المجردة، وأشكال نوعيّة مــن الذكاء، وتصوَر متفرّد للزمن. وجاءت تلك الميَزات الإنسانية كثمرة لمسار نوعي من التكيّف والتفاعل بين البشر والكون. ورأى غانسان أيضاً أن الحيوان يمتلك مرونة بإزاء محيطه، إذ يحسّ باللذة والانفعال، ويتواصل بلغة مختصة وخلص إلى القول إن الإنسان لا يستخدم اللغة للتعبير عن رغباته فحسب، بل أيضاً للتواصل مع الآخرين. ورسم ذلك المسار للإنسان كينونته، فلا وجود لطبيعة إنسانية معطاة ولا لحتمية بيولوجيّة فيه. وفي سياق مشابه، أشار الكاتب الفرنسي المعاصر جان فيركور (توفي في 1992) إلى هذا الموقف، بالقول إن الحيوان مندمج في الطبيعة بحيث لا يستطيع تحديها وإثارة الأسئلة في وجهها. الحيوان والطبيعة واحد، لكنها اثنان مع الإنسان. ورأى أن تاريخية الكائن الإنسان تأتي من تلك الحرية، التي تأخذ أيضاً اسم التعليم، ما يغيب تماماً عند الحيوانات التي تعرف كل شيء منذ ولادتها. وخلص فيركور إلى القول إن تلك التاريخيّة للبشر حفرت نفسها في التغيرات الهائلة التي حدثت في الثقافات والمؤسسات التي رافقت مسار حضارة البشر.

مشاركة :