النسيان ما بين نعمة ونقمة

  • 5/1/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

قبل أعوام قليلة سافرت مع عائلتي في إجازة، وقبل التوجه إلى المطار خبأت مبلغا كبيرا من المال في مكان أمين في البيت، وسافرنا وعدنا بالسلامة، وفشلت في تذكر أين أخفيته، وبعدها بسنوات تناولت كتابا كان في حالة يرثى لها من البهدلة وفجأة سقطت منه أوراق نقدية زاهية، وحمدت الله على آفة النسيان، لأن ذلك المبلغ كان بمثابة مدخرات إجبارية هناك الطرفة القديمة عن زوجين كانا يستمعان إلى خطيب عربي، وعندما تساءل الخطيب: من الذي أضاع الأندلس؟ التفتت الزوجة بخبث نحو زوجها وقالت له بكل رقة: أكيد أنت!! المهم بلغ بي الأمر أنني «تعقدت» وصرت كلما فشلت في العثور على شيء مثل مفتاح السيارة، أو النظارة لا أسأل من حولي عنه، حتى لا «أجيب الكلام والتريقة لنفسي». ما يطمئنني بشأن قواي العقلية وذاكرتي هو أنني أعرف أن حالة النسيان التي أعاني منها منشؤها أن عقلي شغال مثل المروحة، ولا يكاد يرتاح إلا عند النوم، لا أعني بذلك أنني عبقري فهذه مسألة «محسومة»، ولكن أعني أن دماغي صار يعاني من الحمولة الزائدة: أسماء آلاف الناس والأماكن والحوادث، وعواصم بلدان مثل نيبال وزفتستان وكاكاستان. يعني لا توجد «حتة فاضية» في دماغي لتخزين معلومات جديدة ما لم أقم بمسح بعض القديم منها، وعملية المسح هذه هي التي نسميها النسيان، ومن صار مثلي يعاني من نسيان مكان المفاتيح أو يدخل البقالة ليشتري عصيرا، ويخرج منها وقد اشترى علبة السجائر رغم أنه توقف عن التدخين منذ عشرين سنة أمره هين، طالما أنه لا ينسى أنه متزوج ويتقدم للزواج بأخرى ويقدم بطاقة دعوة للفرح لزوجته (على أساس أنها إحدى قريباته) ومن أسخف النصائح التي يقدمها بروفيسور غروسبيرغ المختص بعلوم الدماغ والذاكرة لأمثالي، هي أن يكتبوا الأشياء المهمة التي يودون تذكرها. ظللت أفعل ذلك لسنوات، ولكنني لا أتذكر أين وضعت الورقة التي كتبت عليها تلك الأشياء، بل وقد أنسى أنني كتبت «مذكرة». يقول الأطباء إن المعاناة من النسيان وعدم التركيز الذهني تبدأ بعد سن الخمسين، وبالتالي فنصيحتي لأبناء جيلي هي تفادي سن الخمسين: اقنع نفسك أن عمرك 42 سنة، وإذا لم يقتنع الآخرون من حولك بذلك «يصطفلوا»: اتهمهم بأنهم حاقدون ويحسدونك على شبابك.. وإذا حاول أحدهم إحراجك بكلام من نوع: كيف يكون عمرك كذا وأربعين سنة وأنا عمري 58 سنة وكنت دفعتك في الجامعة؟ لا تتردد في إحراجه بدورك وأعلن أمام الملا: يا كذاب. أنا لم أدخل الجامعة قط! وهب أنك نسيت أين أوقفت سيارتك وعدت إلى البيت في سيارة أجرة، قبل أن تفتح زوجتك بلاعيمها بالموال المعتاد عن قواك العقلية أفحمها وأخرسها بكلام من شاكلة: تركت السيارة لدى الميكانيكي لأن ريبورتاج السيارة انقطع، ولابد من تغيير نظام تورابورا التبريد بالكامل. ولكن هناك مواقف يؤدي فيها النسيان إلى تعرضك إلى الدمار الشامل. مثل صاحبنا الستيني الذي رن الهاتف في بيته فرفع السماعة وتكلم لدقائق معدودة ثم انقطع الخط، ورن الهاتف مجددا وطلب الشخص المتصل أن يكلم زوجة صاحبنا، فغضب وشتم المتكلم: يا صعلوك يا قليل الحياء.. أنا زوجها أكلمك وتطلب مني أناديها كي تكلمك، ثم أغلق الخط بعنف.. وبعد نحو ساعة جاءت حماته دون أن تلقي عليه التحية، فعاتبها على ذلك: السلام أمان يا عمتي.. ولكنها ردت عليه: عمى يعميك، الحين عرفت أني عمتك وقبل قليل شتمتني لأنني أردت أن أتكلم مع بنتي، أنا صوتي رجالي يا معتوه؟ وهب أن حماتك دخلت عليك أنت وزوجتك ولكنك وفي لحظة شرود ذهن صحت فيها: يا هلا يا عبدالصمد.. بمجرد أن تدرك فداحة الإعصار الذي ستواجهه، عليك أن تضع يدك المرتجفة كالسكران إلى حيث أدويتك وتبلع قرص عسر هضم من دون ماء ثم «تلعب الدور» لنحو نصف ساعة أخرى وتقول لزوجتك عندي انسداد في صمام الشاسي، وأخفيت الموضوع عنكم!

مشاركة :