أفضل أنواع النسيان هو الذي يندرج في إطار النعمة؛ النعمة في نسيان نوبة ألم، موت شخص عزيز، نسيان إساءة من قبل أشخاص لم يقدّروا إحساننا لهم، علاقة حب أو صداقة لم يكتب لها النجاح ثم نسيان كابوس مخيف أو نسيان الفشل في تحقيق حلم طالما راودنا. ثم إن النسيان قد لا يكون فعلا إراديا في بعض الحالات، ذلك الذي يولّد ندوبا نفسية تسببها كلمات جارحة أو غير لائقة ربما نتقبلها بعدم اكتراث ظاهر، لنحتفظ بها في زاوية قصية من الذاكرة، لتبقى هناك إلى الأبد تصفعنا بين حين وآخر كلما لاحت ذكرى بعيدة وحرّكت غبار النسيان في قلوبنا. وهذه من أشّد أنواع الذكريات صلابة ومقدرة على التحمّل والصمود مهما طال الزمن، حيث تحتفظ بنصوعها ونضارتها إلى ما شاء لها من عمر الإنسان. بعض الأحداث لا يمكننا تجاهلها، فضلاً عن نسيانها؛ أعرف صديقة كلما اختلفت مع زوجها ذكّرته بأخطاء الماضي وبأن نسيانها وتجاوزها ببساطة لن يكونا في صالح العلاقة، وبدلاً عن الاعتذار وتفهم وجهة نظرها اتهمها الزوج بالمبالغة وتضخيم الأمور، وبأنها تراوغ فتترك المشكلة الأساسية لتبدأ في البحث في الدفاتر القديمة، مع أنه لو تفحص الأمر قليلاً لوجد أن جذور مشكلة اليوم موجودة في دفاتر الأمس. هكذا يكون النسيان نقمة؛ فكلمة واحدة مراوغة من شأنها أن تجرح جدارا صلبا من تاريخ تم تدوينه بذاكرة مشروخة لا تتكلف عناء اليقظة ولو للحظة صدق واحدة، أيا كان هذا التاريخ سواء أكان يتعلق بفرد واحد أم ببلد بأكمله؛ فكتابة التاريخ بقلم النسيان والتجاهل جريمة لا تغتفر بحق هويتنا ووجودنا، حيث يمثل التاريخ أرشيفا وسردا وبناء للماضي يتحمل من يتصدى لتدوينه مسؤولية إنقاذ الذاكرة من النسيان واستيفاء العبرة مما حدث، إذ أن ضوءا خافتا يمنحه لنا الماضي قد ينير درباً طويلاً في حاضر مبهم وداكن. الحديث عن كتابة التاريخ يعني ببساطة إنقاذ ذكرياتنا من النسيان قبل أن يصبح النسيان نقمة. ليس المقصود كل الذكريات بالطبع، بل تلك الذكريات والأحداث التي تستحق أن تخلّد وتوثق، لنعود إليها بين الحين والآخر عندما نكون في حاجة إلى الخروج من مطبات التناسي والتشتيت، عندما يكون هناك بد للالتفات قليلاً إلى الوراء لتلمس الطريق الذي أمامنا. يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور “لأن عمل المؤرخ يبقى في نهاية المطاف تفكيكا وبناء وإعادة بناء، تعليقا وتعليقا على تعليق، كتابة وإعادة كتابة، عودة لمقولات كلاسيكية وإعادة صياغتها، استعمالا لمفاهيم واستعارات، اختيارا لكلمات ومقولات، انتقاء لأحداث وظواهر، تأويلا للماضي على ضوء الحاضر، وتأويلا للحاضر على ضوء الماضي، وفي كل هذا وذاك، غالباً ما يذوب منطق التحليل والتفصيل”. لهذا كله، لا يسلم تاريخ من التزييف والمبالغة أو الإدعاء حتى إذا كان تاريخا شخصيا. ومع ذلك، فإن بعض ما يفرزه لنا الواقع المعيش من تعقيدات وعثرات، لن تتوفر له حلول ناجعة ومباشرة، إلا في العودة والتحديق جيدا في عيون الماضي، إذ أن ما تخزنه الذاكرة قد يصح أن يتبلور من جديد بهيئة حاضر، خاصة إذا تكررت الأخطاء ذاتها، فالتاريخ يعيد نفسه.
مشاركة :