إنعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته 23 فتح النقاش والحوار من جديد حول الكثير من عناصر قضيتنا الوطنية، وهو حوار مطلوب على الدوام كونه يؤسس لثقافة حوار وطني غائبة ومغيبة منذ سنوات.. رغم ان بعض هذه الحوارات افتقدت في الكثير من المرات لشروط العملية الحوارية المنطقية، خاصة في ظل الانتشار الهائل لمواقع التواصل الاجتماعي وتحول كل فرد الى محلل وناقد وايضا شتام. والاهم من ذلك غياب الرقابة والتوجيه من قبل قيادات الفصائل الى الانصار والمحازبين ما يقود غالبا الى نتائج عكسية لمثل هذا الحوار نماذجه الواضحة المزيد من التعصب الاعمى للموقف والفصيل والشخص. احدهم يقول ان المجلس الوطني يعمق الانقسام ويضر بالقضية الفلسطينية، وكأن 11 عاما من الانقسام كانت مجرد رقم لا تأثيرات ولا انعكاسات سلبية له، ولم يدمر شعبنا وقضيتنا ولم ينتج انقسامات على مستوى كل تجمعات شعبنا في لبنان وسوريا كما في الضفة وغزه وجميع اقطار اللجوء والشتات. ثانيهم يسترسل بالتحليل ليصل الى نتيجة مفادها ان هذا المجلس الوطني غير شرعي ولا يمثل الكل الفلسطيني. ما الجديد في مثل هذا الموقف اذا كانت حركتي حماس والجهاد هم اصلا خارج مؤسسات منظمة التحرير ويتبنيان هذا الموقف من المنظمة منذ عقود سواء عقد المجلس ام لم يعقد، وكم من المؤتمرات هنا وهناك عقدت تحت عناوين البحث عن بدي للمنظمة.. اذا ما الجديد الذي يحمله مثل هذا الموقف؟ ثالثهم يكمل في الاسترسال ليصل في تحليله ان مجلس رام الله سوف يكون جزءا من صفقة القرن الاميركية.. وكأن نجاح هذه الصفقة متوقف على انعقاد المجلس الوطني.. وبالتالي فان هذا المحلل ينأى بنفسه عن المواجهة وان من يتحمل المسؤولية هم اولئك الذين شاركوا في هذا المجلس. والغريب ان احدا من هؤلاء لا يتحدث كثيرا عن واحدة من اهم الوظائف التي يسعى اليها البعض وهي احكام القبضة وزيادة الهيمنة والاحتكار على قرار المنظمة في محاولة لمزيد من تعطيل دورها وايضا محاربة القوى التي تنادي وتعمل من اجل التغيير ومحاصرتها لمنعها من تقديم مشاريع الاصلاح الديمقراطي لمؤسسات م.ت.ف بما يعيد الاعتبار للمنظمة ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، ووضع حد لسياسة التفرد والاستفراد، وتهميش المنظمة وتذويبها في مؤسسات السلطة الفلسطينية. من الخطأ النظر الى دورة المجلس الوطني الحالية خارج سياق الانقسام الفلسطيني وخارج اطار الحركات والصراعات الاقليمية والدولية، غير ان الاساس الذي يحاول البعض ان يتناساه هو ان منظمة التحرير بمختلف مؤسساتها تشكل حصيلة توازنات فلسطينية وعربية ودولية وحسم الصراع عليها ومن اجلها وظاخلها وخارجها لا يكون بالمواقف العدمية التي لا تحمل اي رؤية لتغيير هذا الواقع، بل باستراتيجيات وطنية تجمع ولا تفرق، تقرب ولا تبعد وتجذب ولا تنفر.. فيما الواقع السياسي الرسمي والفصائلي الذي نعيشه اليوم هو ان الكل ضد الكل ومع الكل وتصبح جلسة المجلس الوطني هي المعيار الذي على اساسه يمكن ان تبنى التحالفات المصلحية التي لا افق سياسي لها. الا يعلم كل هؤلاء ان هناك انقساما فلسطينيا على كل شيء منذ اكثر من ربع قرن؟ هل سمعوا عن تجمعات فلسطينية بامها وابيها تعيش الموت بشكل يومي بسبب انانية وفئوية هؤلاء؟ لماذا لا يختلفون على من يحقق هموم ومصالح الناس في غزه ولبنان وسوريا، ولماذا لا يقدموا تنازلات يمكن تسميتها بـ "التكتيكية" لصالح فلسطين وهم يعلموا حجم المخاطر التي تتعرض لها الحقوق الفلسطينية والتي تختلف عن اي تهديد سبق وان عاشته القضية الفلسطينية. القول بأن المجلس الوطني لا يمثل هذا او ذاك ليست هي النقطة الاساس، بل ان سبل مواجهة مرحلة ما بعد انعقاد المجلس هي الاخطر. فقد قيل في السابق ان لا علاقة للشعب الفلسطيني باتفاق اوسلو، لكن من دفع اثمان هذا الاتفاق والتزاماته هو هذا الشعب من لحمه ودمه، وبالتالي فان عدم مواجهة نتائج وتداعيات اتفاقات اوسلو بشكل فعلي على الارض كانت له نتائج اخطر واكثر سلبية من نتائج الاتفاق نفسه.. وهذا ما ينطبق على المجلس الوطني عندما يتم الاكتفاء بموقف عام دون ربطه بآليات تحرك جماهيري يقود الى تغيير واقعنا السيئ الذي نعيش. لسنا بحاجة لكثير عناء كي نثبت ان الحالة الفلسطينية بجميع مكوناتها ما زالت تعيش في ابجديات الديمقراطية التي عمادها وركنها احترام الآخر كما يقدم نفسه طالما ان هناك اتفاق عام على الابجديات الوطنية. فالفصيل الذي اراد ان يقاطع فهذا خيار يجب ان يتم احترامه طالما انه نابع من الارادة الوطنية الحرة لمن اتخذه طالما انه يعكس اراده جمهور هذا الفصيل، والتاريخ والشعب هم الذين سيحاسبون. ومن اراد المشاركة فهذا ايضا خيار وطني وفقا لقراءات وخيارات هي بالفعل مفتوحة للنقاش السياسي الذي لن يحسم الا عبر حوار سياسي عقلاني والشعب والتاريخ هم الذين سيحاسبون. لكن من يتخذ موقفا ويعتقد انه يمتلك الحقيقة، ويوزع شهادات بالوطنية على هذا وذاك وهو مشنشل من رأسه حتى اخمص قدمية بالتبعية والوصاية المفضوحة وبالمال السياسي الذي فاحت رائحته وازكمت الانوف. وبالمقابل يقف على عرش الوطنية ليوزع الشهادات على هذا او ذاك بانه الوطني الحريص على قضيته فهذا ما يجب صده ورفضه بل وتعريته امام الشعب. من اراد ان يبحث عن السلبيات سيجد الكثير منها في تاريخ وحاضر كل فصائلنا، ومن اراد البحث عن القواسم المشتركة التي يمكن البناء عليها ايضا سيجد منها الكثير ليراكم عليها وينطلق منها ويجمع عليها كل من سعى لدق مسمار في مسار العمل الوطني. كل يغني على ليلاه.. واعلام.. وميديا وشبكات تواصل اجتماعي.. شتائم وسباب والغائب الاكبر هو العقلانية السياسية والحوار ولغة المنطق والوطنية. والنتيجة اتساع الهوة بين هذا وذاك وزيادة الفجوة بين الفصائل وبينها وبين جماهير الشعب. هو حقا ليس حوارا سياسيا ولا تعددية، بل حوار طرشان. اذا كنا لا نختلف على ان الطريق الذي تسير عليه قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية هو مسار خاطئ بكل المقاييس، فان ما نريده اليوم هو ليس توصيف حالة عرفناها وخبرناها منذ اكثر من ربع قرن بأن المسار الاوسلوي لن يقود الا الى نتائج كارثية على مستوى القضية والشعب بمختلف تجمعاته.. ما نريده ويريده كل الشعب وهذا هو التحدي هو القدرة على تغيير موازين القوى لصالح قوى التغيير بعيدا عن المنطق الفئوي الاستئثاري والاحتكاري الذي عهدناه في جميع التجارب "الوحدوية" والمشتركة وما اكثرها والتي انهارت وفشلت بسبب المنطق السائد اليوم في لغة الحوار السياسي. إذا كان الجميع بات مقتنعا ان نقطة البداية تكمن في القناعة اننا حركة تحرر وطني وليس كيانا قانونيا كبقية الكيانات الدولية المستقلة. وحسابات حركات التحرر تختلف عن حسابات السلطة والامتيازات، وقوتنا كحركة تحرر وطتي هو في التوافق على قواسم القواسم المشتركة بالاستفادة من تجارب حركات التحرر العالمية التي سبقتنا عبر تعميم منطق الشراكة الكاملة في كل ما له علاقة بمستقبل شعبنا وقضيتنا ومغادرة منطق الاقلية والاكثرية في التعاطي مع قضيتنا الوطنية ومع بعضنا البعض. وعلى هذه القاعدة تصبح مهمة الجميع هي "اعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني" باعتباره مشروعا وطنيا تحرريا لشعب يسعى للخلاص من الاحتلال والاستيطان بكل ما يمليه ذلك من التزام بشروط وقواعد العملية التحررية. اذا كانت التعددية السياسية نعمة عند بعض الدول فبئس هذه التعددية في حالتنا الفلسطينية ان كانت تقوم على مبدأ "انا الحقيقة الكاملة".. لذلك على الجميع تحمل مسؤولياته السياسية والوطنية والاخلاقية في اعادة الاعتبار لقضيتنا الوطنية باعتبارها قضية الكل الفلسطيني بما يمليه هذا من مهمات ومسؤوليات وطنية. فتحي كليب عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
مشاركة :