هناك أناس يشمئزون عندما تتحدث عن بعض سلبيات الغرب ويواجهونك بحجج وذرائع وأدلة يتصورون أنها أبلغ من أن يطالها النقد أو التفنيد. يقول أحدهم لك مثلاً: الغرب هو صانع الحضارة الكونية اليوم، هو صانع السيارة والطيارة والقطار والغواصة، هو صانع الكمبيوتر، هو صانع التلفاز والأقمار الصناعية، والدكتور فليمنج قضى على فايروس السل باكتشافه مصل البنسلين؟ أليس"أنشتاين" هو مكتشف النسبية؟ إذاً الغرب هو صانع كل شيء بينما نحن نستهلك ونجلس القرفصاء، وننتقد هذا الغرب وندعو عليه. نقول نعم الغرب صانع حضارة اليوم وإن لم يكن مبدعها!! وما وصل إليه الغرب ما هو إلا حلقة أخيرة في سلسلة من الحضارة الإنسانية الطويلة، ولا يجوز لنا بل ليس من العدل أن ننكر إبداع العقل الإنساني المتتابع وحضاراته المتتالية، فإبداعات تلك الأمم هي درجات السلم الذي صعدته البشرية وأوصل الغرب اليوم إلى القمة، لقد كانت اجتهادات وابتكارات عقول بشرية عبر حقب من السنين هي التي أوصلت الغرب إلى غرفة الأسرار، ومفاتيح الابتكار إذ لا يمكن أن ننكر الحضارة الصينية واليونانية القديمة والحضارة الهندية والمصرية والآشورية والعربية. بل في تصوري أن اختراع الأبجدية والأرقام الحسابية أهم من جميع منجزات اليوم فلولاها ما استطاع الإنسان أن يدون أو يضبط ويحل أصعب النظريات الفيزيائية المعقدة.. وأول أبجدية عرفها التاريخ هي أبجدية "شمرا" في سورية، بل إن علم الذرة قد أشارت إليه كتب رهبان البوذية، أما المسلمون فقد تحدثوا عنه بدقة متناهية.. فقد تحدث العالم الصوفي جلال الدين بن الرومي عن الذرة حديثاً في منتهى الدقة حيث يقول: "لو فلقت الذرة لوجدت داخلها نظاماً شمسياً..!!" نعم نظام شمسي وهو ما اكتشفه العلم الحديث، هذا القول قبل أن يولد "أنشتاين" بألف سنة، والعرب هم الذين أضافوا الصفر الذي أحدث ثورة هائلة في علم الرياضيات.. ولست هنا ممن يذرفون الدموع على أطلال التاريخ، كلا ولكن لأبُرهن على أن العرب قادرون وبإمكانهم استحاثة التاريخ من جديد. ولعله من حسن حظ الغرب أنه جاء في قمة مرحلة النضج الإنساني، وكأن الإنسانية نفسها أشبه ما تكون بتلميذ ابتدأ من مراحل التهجي وتعلم النطق السليم ثم تدرج إلى الكتابة والقراءة، وكلما تقدم به العمر انتقل إلى مرحلة علمية أعلى. ولقد كانت الفقرة أو المرحلة الفاصلة والحاسمة في مسار الإنسانية هي صناعة الآلة الأوتوماتيكية والتي حاول الأقدمون والعرب بالذات صناعتها وكانت لهم علوم بل علم محدد في هذا المجال أو الفن وهو علم "الحيلة"، وقد تطور هذا الفن إلى درجة أنهم اقتربوا من صناعة الآلة الأوتوماتيكية، فقد نشط في عهد المأمون ثم العهود التي تلته، وقد سجل المتنبي في أبيات له وصف فيها جارية أوتوماتيكية "روبوت" تسير على قدميها، وتسقي الندماء في مجلس بدر بن عمار فطلب بدر من المتنبي أن يصفها فقال: في القومِ جاريةٌ من تحتِها خشبُ ماَكَاَن والَدها جنُّ ولا بشرُ قامت علَى فردِ رِجلٍ من مهابتهِ وليسَ تعقلُ ماتأتي ولا تَذرُ ودارت على الحاضرين واقتربت من بدر فرفعت رجلها فقال المتنبي: ياذا المَعالي ومعدِنُ الأدبِ سيّدنا وابن سيّدِ العرب أنت عليمٌ بكل معجَزةٍ ولوَ سَألنا سواك لمَ يجب أهذه قابلتك راقصة؟ أم رفعت رجلها منَ التَعب فانظر إلى هذه الفتاه الصناعية التي تسير بين الجالسين تخدمهم وتسقيهم وترقص وترفع رجلاً وتضع اخرى وهي بلا روح.! وهناك قصص حول الصناعات الأخرى يجدها المتتبع في كثير من كتب علم "الحيلة" وهو علم الصناعة، وفي مثل كتاب ابن ظافر " بدائع البداهة " أي بدائع الاختراع.. لكن هناك من يريد بتر ساقي التاريخ بزعمهم أن التاريخ ولد في الغرب، وأن الأمم السابقة ليس لها تأثير في حركة الإنسان نحو التطور والارتقاء الإنساني في البناء والابتكار.. نعم نحن نعترف بكل تقدير واحترام للعطاء الغربي في خدمة الإنسانية من هذا المنظور.. ولكن هذا لا يعفيه من أنه استعمل في الوقت نفسه هذه الآلة استعمالاً سلبياً ربما يتفوق في بعض الأحيان على إيجابياتها، فقد صنع الدبابة والطائرة المقاتلة والصواريخ بكل أشكالها والقنابل الفراغية والقنابل المنضبة، وتفنن في صناعة أساليب الموت والفناء الإنساني من مواد اشعاعية وكيميائية وغيرها. كما أنه استغل هذه الصناعة والتفوق للاحتلال والاستغلال وقتل الشعوب واختطاف خيراتها من أفواه أبنائها ولعل مذابح القرن العشرين إلى اليوم تعادل بل تفوق المذابح الإنسانية منذ خلق البشرية، ومجاعات عصرنا تفوق المجاعات في كل العصور. كما أن هذه الحضارة هي حضارة مادية استعبدت الإنسان وقيدته بأغلال ثقيلة من العمل النمطي الصارم، فنزعته من إنسانيته نزعاً وحولته إلى مجرد آلة، كما لوثت الطبيعة والأخلاق.. كل ذلك كان عن طريق العنف الصناعي والحربي وبالذات النووي الذي يدخل الرعب والقلق في قلوب أبناء البشرية في كل لحظة، والذي لو حدث فإنه سوف يحول كوكبنا - كوكب الحياة الوحيد الفريد- الذي نعيش عليه اليوم إلى غبار وسديم وهذا ماجعل عقلاء العالم يحذرون من هذا الاندفاع المحموم نحو افتعال الحروب وصناعة السلاح فلقد حذر الرئيس الأمريكي "آيزنهاور" في آخر خطبة له 1961حذّرالشعب الأمريكي "من مجمعات صناعة الأسلحة" ليس خوفاً على شعوب العالم وإنما على الشعب الأمريكي نفسه، وفعلاً خفت صناعة تلك الأسلحة إلى أن جاء الرئيس "ريغان" فأشعلها من جدد… قد يرد أحدهم ببلادة وبلاهة، ويقول: ما أصبر الغرب علينا.. يتفننون في الابتكار، ونتفنن في النقد والانتقاص..! وأقول لن يمنعنا بعض عبّاد الغرب من قول الحقيقة التي حذر منها كثير من مفكري الغرب وعلمائه أنفسهم. بل علينا أن نتذكر في هذا السياق ما سبق أن حذر منه أبو القنبلة الذرية، العالم الأمريكي "أوبنهايمر" وهو يرى دخان أول قنبلة ذرية عند تجربتها في صحراء نيو مكسيكو حينما قال وقد أصابه الرعب والفزع: "اليوم عرف علماء الغرب طريق الخطيئة".
مشاركة :