«حضارة عصر النهضة» لبوركهارت: الزمن الذي تحوّل فيه الإنسان إنساناً

  • 11/2/2017
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

لا شك في أن تربية جاكوب بوركهارت الكنسية وهويته السويسرية وسمتاه طوال حياته بذلك القدر الكبير من التواضع الذي عادة ما يميّز رجال الكهنوت وكبار المبدعين السويسريين، على قلة هؤلاء. ولكن أن يصل به تواضعه الى أن يصنف واحداً من أهم الكتب التي اشتغل عليها طوال حياته بأنه مجرد «مقالة» فأمر يبدو بالتأكيد عصياً على الفهم، بخاصة إن عرفنا أن تلك «المقالة» التي تمتد على نحو ثمانمئة صفحة بالحجم الكبير أضحت من فورها، يوم صدرت في كتاب، واحداً من أهم المراجع العالمية بالنسبة الى الباحثين في حضارة عصر النهضة. ولعلنا هنا لا نكون في حاجة الى وصف تلك الحضارة بالإيطالية كما يفعل عنوان الدراسة طالما أننا نعرف أن تلك النهضة التي يتناولها بوركهارت، هي تحديداً النهضة الإيطالية إذ يصعب إيجاد ما يماثلها في تلك الأزمان المفصلية من تاريخ الحضارة البشرية. إذاً في نحو العام 1860، وبعد أن كان قد أصدر العديد من المؤلفات اللافتة والأساسية، اختتم بوركهارت سلسلة مؤلفاته الكبيرة بهذا السفر الذي ما لبث خلال القرن التالي أن ترجم الى معظم اللغات الحية في العالم، ومنها العربية في تلك الترجمة المميزة التي أنجزها الكاتب المصري عبدالعزيز توفيق جاويد وصدرت قبل سنوات في طبعة جديدة عن «المركز القومي للترجمة» في القاهرة. > كما يدل العنوان الكامل للكتاب الذي صدر في العربية في جزءين، وهو «حضارة عصر النهضة في إيطاليا» يقدم بوركهارت هنا واحدة من أعمق وأشمل الدراسات حول تلك المرحلة المفصلية من تاريخ البشرية، المرحلة التي تحوّل فيها الإنسان سيّداً لحياته ووجوده بعدما كان مجرد جزء من جماعة لا يد له في تسيير شؤونها. ولعل الأساسي في هذا الكتاب هو أن المؤلف يقول لنا كيف ولماذا كان ذلك التحول وكم استغرق من الوقت؟ لكنه، وهذا أكثر أهمية بالطبع، يقول لنا ما هي سمات ذلك التحول وعناصره، وكيف تداخل الاقتصاد مع السياسة وتمكنت الفنون ولا سيما العمرانية منها، من أن تلعب دوراً أساسياً وقد راحت تتحول بالتدريج من فنون سماوية خاضعة لمشيئة الكنيسة الى فنون دنيوية تتواكب مع مسيرة الإنسان. ولعل الكلمة المفتاح في هذا كله هي العمران والمدينة. فنشأة حضارة عصر النهضة هي، في تجلياتها الأولى والأكثر أهمية، نشأة المدن ذاتها تلك المدن التي نشأت أول ما نشأت كدول وربما كأمم أحياناً، في وقت راح فيه الازدهار الاقتصادي الناتج من التبادل التجاري في شكل خاص في استفادة من الموقع الوسيط لإيطاليا ومدنها المنفتحة على البحر خاصة، يسهل على تلك المنطقة من العالم دوراً أساسياً في تقدم العالم المتوسطي ورخائه. > ويعتبر بوركهارت أن ذلك الموقع، متضافراً مع فكرة أن «الإنسان قد أضحى المركز الأبدي لجميع الأشياء»، هو الذي انعكس في مسرى تلك الحضارة «الإنسان في معاناته وكفاحه وفعله وشأنه الآن وكما كان وسيكون الى أبد الآبدين» كما تقول مقدمة الطبعة الأميركية من الكتاب الصادر أصلاً باللغة الألمانية. أما مفتاح ذلك كله، والذي يحدده المؤلف منذ الصفحات الأولى لكتابه، فهو الصراع المبكر الذي قام بين بابوات الكنيسة في روما كممثلين للسلطة السماوية التي تتطلع الى إبقاء الأمور على حالها، وأمراء أسرة هوهنشتاوفن الذين يمثلون في شكل ما، تلك القوى الصاعدة تبعاً للمستجدات الاقتصادية وبالتالي السياسية التي نتجت من الانفتاح التجاري متضافراً مع وعي إنساني جديد مثلته الفنون والكتابات وضروب العمران النهضوية. والحال أن ذلك التقاطع الصراعي هو الأمر الذي يدرسه جاكوب بوركهارت على مدى مئات الصفحات التي تتوزع دراسته عليها. أما سياق الدراسة ذاتها فينطلق من قسم أول عنونه المؤلف بـ «الدولة كعمل فني» منطلقاً من اعتبار قيام الدولة كمفهوم ولو على أنقاض السلطة الكنسية وبالتناحر معها، عنصراً كان هو ما جعل قيام الحضارة النهضوية ليس فقط ممكناً، بل حتمياً. وهكذا نجده يدرس تباعاً في هذا القسم الانتقال من «طغيان القرن الرابع عشر» الى «استبداد» القرن الذي يليه متوقفاً عند «الطغيانات الصغيرة» و «الأسر الطاغية» ثم «خصوم الطغيان» وصولاً الى قيام الجمهوريات ولا سيما في البندقية وفلورنسا، ما خلق بدوره سياسة خارجية للدولة الإيطالية ومهّد بالتالي لتحول الحروب الداخلية الى حروب خارجية أتت بدورها على شاكلة عمل فني (ماكيافيللي). > وفي القسم الثاني، ينتقل بوركهارت من دراسة قيام الدولة كمفهوم الى دراسة ولادة الفرد ككيان له حيثياته، قبل أن ينتقل منه، في القسم الثالث الى ما يسميه «انتعاش العصر العتيق» حيث يتوقف هنا مطولاً عند العناصر الأساسية التي شكلت البعد النهضوي على أنقاض ما يسميه بوركهارت «روما مدينة الخرائب»، فيتوقف تباعاً عند المؤلفين القدماء الذين كانوا وراء إبداع المذهب الإنساني بدءاً من القرن الرابع عشر. ومن هؤلاء ينتقل الى العناصر الأساسية في تكوين الفرد، الجامعات والمدارس التي ستساهم بدورها في ظهور أنصار المذهب الإنساني كتيارات فاعلة وليس فقط كمجرد باحثين منعزلين. وفي هذا الإطار، يفرد المؤلف صفحات لافتة للثقافة اللاتينية كخطب وأبحاث ومراسلات وتأريخ وشعر، باعتبار أن استخدام اللاتينية كان هو ما مهّد لنوع من وحدة ثقافية كانت ضرورية لتعمّم المذهب الإنساني في ذلك الحين. غير أن المؤلف لا يختتم هذا الفصل إلا بإخبارنا كيف أن أصحاب النزعة الإنسانية ما لبثوا أن سقطوا وفقدوا حظوتهم مع حلول القرن السادس عشر. > ولئن كان جاكوب بوركهارت قد توقف في القسم الثالث من كتابه عند ذلك السقوط الذي أصاب الإنسانيين، فإن هذا لم يعن بالنسبة إليه سقوطاً موازياً للفكر الإنساني ذاته. فهذا الفكر كان بالنسبة إليه قد حقق انطلاقته التي سوف تكون لها مفاعيلها في طول العالم وعرضه. وإذا كانت الفنون والآداب وضروب العمران في شكل خاص قد عرفت خلال القرنين السابقين تلك الاندفاعة الاستثنائية في تاريخ البشرية، فإنها اندفاعة لا رجعة عنها، ولا يمكنها أن تنتهي بانتهاء التاريخ السياسي - الاقتصادي - الاجتماعي الذي صنعها. ومن هنا يكرس المؤلف الأقسام الثلاثة التالية والأخيرة من كتابه لدراسة الأشكال المختلفة والمتنوعة والدائمة التي انعكس فيها ذلك التاريخ الانعطافي الذي درسه في الأقسام الثلاثة الأولى. وهكذا نجده يعنون الأقسام الباقية على الشكل التالي: اكتشاف العالم والإنسان؛ المجتمع والاحتفالات؛ وأخيراً الأخلاق والدين. وفي القسم الأول، يتوقف المؤلف عند رحلات الإيطاليين في داخل إيطاليا وخارجها ثم يتناول العلوم الطبيعية في إيطاليا وقد أفلتت من براثن التسلط الديني حتى ولو استعان هذا الأخير بما تبقى من سلطة محاكم التفتيش. ومن هنا ينتقل الكتاب الى ما يسميه «اكتشاف الجمال الطبيعي» كما تجلى بخاصة في الفنون التشكيلية ولكن أيضاً في التوجهات التي اتخذتها ضروب العمران. ومن اكتشاف الطبيعة الى اكتشاف الإنسان ذاته خطوة يقطعها بوركهارت في خمسة فصول يختتم بها هذا القسم مكرّساً إياها تباعاً للوصف الروحي في الشعر الذي كان العنصر الأساس في التعبير عن «اكتشاف الإنسان»، منتقلاً الى التراجم فوصف الأمم والمدن ووصف الإنسان الخارجي وصولاً الى وصف الحياة في حركيّتها المتواصلة. > ومن الواضح أن ما سبق يقودنا الى «المجتمع والاحتفالات»، حيث يحدثنا المؤلف عن «المساواة بين الطبقات» والسوك المهذب في الحياة البرانية، متوقفاً هنا عند دور اللغة كـ «أساس للاختلاط الاجتماعي» وكتعبير أيضاً عن «الأشكال العليا في المجتمع»، وهذا ما يقوده قبل توقف لافت عند «مركز المرأة» و «الاقتصاد المنزلي» و «الاحتفالات»، الى ما يسميه هنا بـ «الرجل الكامل في المجتمع» ما يذكرنا ببالداسار كاستليوني وكتابه العمدة في هذا االمجال. الكتاب الذي رسم الأسس العقلية والفكرية وحتى الشكلية والجسمانية للإنسان النهضوي الحقيقي. الفرد وقد استعاد مكانة له كانت قد سلبت منه منذ سيطرت الكنيسة على حياته. وبالطبع يذكرنا هذا بالكنيسة ذاتها، فنتساءل: ... ولكن أين الدين الآن من هذا كله؟ ويأتي الجواب في القسم الأخير من الكتاب، القسم الذي يجعل الأخلاق والدين متواكبين كدلالة على دور مقترح للدين يدخل عالم السلوك بعيداً من عالم السياسة وتدبير شؤون الناس والمجتمع. وبهذا يعود جاكوب بوركهارت (1818 - 1897) المولود في بال السويسرية التي لم يغادرها ولا سيما خلال السنوات الأخيرة من حياته، الى ما بدأ به كتابه الذي لا يزال حتى اليوم يشكل المرجع الأساس لكل من يريد الانطلاق في دراسة عصر النهضة... الإيطاليّ.

مشاركة :