أفريقيا أناس ليسوا مثلنا

  • 5/5/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

شرق أفريقيا، (الإمبراطورية البرتغالية، عام 1969) كنتُ خائفاً ألاّ أتعرّفَ إلى خالي في ردهة المطار، فآخرُ مرة التقيتُه فيها كنتُ في الرابعة من عمري بينما كان هو يخطو نحو الثلاثين. عثرتُ في غرفة أمي على صورةٍ قديمةٍ له، يقرفصُ فيها بين رفيقين في استديو للتصوير، خلفهم صورةٌ لأشجار مزهرة، وعلى ركابهم بنادقُ صيد. أمضيتُ الرحلةَ القادمة من مطار بيروت وأنا أتأمّل تلك الصورة بفضولٍ، محاولاً أن أستشفّ شخصية الخال عبر ملامحه. أحببتُ فيه اهتمامه بالصيد. فأنا من هواتِه أيضاً؛ منذ صغري أحمل بارودتي وأرافق أخي الأكبر، سمير، في رحلات صيد طويلة، نطاردُ فيها طيورَ الفريّ في خريف الضيعة وربيعها. لحسن الحظ، عرفني الخال بسهولة في باحة المطار. فما إن اجتزتُ نقطة الأمن حيث الموظفُ الأشقرُ ذو العينين الزرقاوين حتى أحْسَسْتُ بيد تربّتُ على كتفي. عرفتُ من دفئها بأنه الخال. فضممتُه إلى صدري وقبّلتُ خدّيه ثلاث مرات. لم أسأله كيف تعرّف إليّ. قدّرتُ أنّه قد أخذني على الشبه. علماً أنه لا يشبه نفسه في الصورة التي حملتُها معي من الضيعة. فقد امتلأ وجهه قليلاً وكبر بطنه. كذلك استبدل شارباً قصيراً بآخر أكثر كثافة يتصل بلحية يتخلّلها بعضُ الشيب. خارج ردهة المطار، هرع سائقه الزنجيّ نحونا. أخذ الحقيبة المنتفخة من يدي ووضعها في صندوق سيارة فولفو؛ طرازها حديث، ولونها أبيض. لفتني في الداخل قرآنٌ صغيرٌ متدلٍّ من المرآة الأمامية، وواجهة قيادة مطعّمة بخشب مميّز. انطلقتِ السيارةُ بعد برهة، تشقّ طريقها في شوارع واسعة، تصطفّ على أطرافها بيوتٌ أنيقة، سقوفها من قرميد، وأسوارها بيضٌ بياضَ الغيوم. لكن المشهد سرعان ما تبدّل حين مرّت السيارة بشارع أشبه بسوق شعبيّ. يزدحم بأناس سود البشرة، حفاة، وعراة إلا من عقود خرز وعاج. أخذتُ أدير رأسي بين النافذة عن يساري وزجاج السيارة الأمامي، متأمّلاً الوجوه الغاضبة، التي تحدّق إليّ بشررٍ. في تلك اللحظة، تملّكني الندم لأنني فضّلت أفريقيا على ألمانيا، حيث يقيمُ أخي سمير منذ ثلاث سنوات. قبلوه لاجئاً هناك، وهو ما فتئ يبعث لي بصور له مع نساء طويلات وشقراوات، بخلاف الزنجيات ذوات الثياب المتسخة اللواتي يمرن أمامي الآن. فضّلتُ أفريقيا لأنها بلاد الثروات، ولكن أيّ ثروة تُجنى في بلد لا يجد السكان فيه طعاماً يقتاتونه، ولا قماشاً يغطّون به عوراتهم؟ فجأة، قفزتْ عجوزٌ ذات قبعة ملوّنة على زجاج السيارة. فدعس السائق على الفرامل. ثم مدّ رأسه من الشبّاك يشتمها، قبل أن يواصل قيادته للسيارة بهدوء مَن لا يعكّر مزاجه شيءٌ. في تلك الأثناء، انتبه الخال إلى وجهي الذي تغيّر لونُه. فربّتَ على ساقي وهمس بنبرة محايدة: «بكرا بتتعوّد!». أردفَ بعد صمت: – لسوءْ حظّكْ، وصلتْ اليومْ ع أفريقيا. مبارحْ بلْليلْ اغتالو زعيم الثوّار! بلعتُ ريقي. سألتُه بلكنة حائرة: – زعيم السود؟ – إيهْ.. زعيم العبيد.. – كيفْ اغتالوْ؟ – بعبوةْ، زرعوها بكتابْ! تحسّستُ رواية «الجبل السحري» التي حملتُها معي من الضيعة. قلتُ: – أكيد كانْ مثقفْ حتى يفكرو باغتيالو بكتاب؟ قهقه الخال. بدّل حبّات المسبحة بيده، وعلّق من دون اهتمام: – سواءْ كان مسقّفْ أم لا، كلّو ما بفيدْ لما تجيْ ساعة الموت، يا خال! بعدها ساد صمتٌ قصيرٌ. حدّثتُ نفسي خلاله أن من الجبن أن يُؤخذَ الإنسانُ غدراً، ويُقتل بعبوة في كتاب. فكّرتُ أن أسأل الخال «من القتلة؟». لم أسأل. خشيتُ أن أعطيه انطباعاً بأنني ثرثار وكثير الكلام. بعدها رأيتُ السيارةَ تدور حول تمثال لفارس أوروبي، وتأخذ طريقاً فرعياً مفضياً إلى مَرأَب لمبنى مؤلّف من ثلاثة طوابق. هناك أطلق السائقُ زموره. فنزلتْ على إثره خادمة زنجية، شعرها منفوش وملابسها مزركشة. حملت الزنجية حقيبة سفري بكلتا يديْها وصعدتْ أمامنا إلى الشقة القائمة في الطابق الثالث. بعدها أرشدني الخال إلى غرفتي التي بدتْ أكبر من بيتنا في «مرج الريح». مرّرتُ نظري داخل الغرفة أتفحّصها. فوجدتها مدهونةً ومبلّطة، وذات خزائن واسعة مثبّتة في الجدران. عندها وضعتُ كتاب «الجبل السحري» فوق الكوموندينة المحاذية للسرير. ثم فتحتُ سحّاب الحقيبة، ومضيتُ أعلّق ملابسي في الخزانة. عندما تملكني التعب، تحسّست فرشة السرير. بدت وثيرة وناعمة. (في الضيعة، كنتُ أنام على فرشة صغيرة، أبسطها في غرفة الضيوف ليلاً وأعيد طيها ولفّها في النهار). فكّرتُ أن أتمدّد لبرهة قصيرة، ولكنّ النعاس ما لبث أن غلبني. فسحبني النومُ إلى حيثما يسحبُ كلّ الكائنات. في صباح اليوم التالي، استقيظتُ فرحاً، ممتلئاً بشعور جميل منحني إيّاه حلمٌ لم أعد أذكر تفاصيله. فتّشتُ عن الخال في البيت. فلم أجده. سألتُ الخادمة بالإشارات عنه. فأمطرتْني بسيل من الكلمات الغريبة، كلّها تنتهي بما يشبه التصفير. لم أفهم لماذا تكلّمني وهي تعرفُ أنني لا أفهم لسانها، ولا أفقه حرفاً واحداً من لغتها الأفريقية. قلتُ لها بالعربية: «يسترْ على عرضك اسكتي». لمْ تسكت. ففتحتُ ستارة الصالون، وخرجتُ إلى الشرفة وهي ما تزال تحكي، ناثرة ضجيجها في الصالون. وقفتُ على الشرفة تحت سماءٍ صافية إلا من غيمتين تتكئان إحداهما على الأخرى. رفعتُ رأسي. فرأيتُ أسراباً من السنونو، تفردُ أجنحتها، وتحلّق بحريّة تحت خصل ذهبيّة مصدرها الشمس. استحضرتُ أيام الصيد في الضيعة وتحسّرتُ لأنني لا أملك بارودة في تلك الأثناء. بعد دقائق قليلة، أطلّت الخادمةُ وهي تحمل لي الترويقة في صينية مغطاة بفوطةٍ بيضاء. شكرتُها بابتسامة، ودعوتُها أن تشاركني الطعام. ضحكتْ بلا سبب، وبانتْ أسنانها صفراء وغير منتظمة. ثم فاهتْ بكلماتها التي تنتهي بالتصفير ومضتْ إلى داخل البيت مجدّداً. انتبهتُ وأنا أتناول فطوري إلى الحركة الخفيفة للناس في الشارع. فتأمّلتُ رجالاً سوداً، يخرجون مترنحين من خيام مقصّبة، هي بمثابة حاناتٍ لهم؛ وتأمّلتُ نساءً يحملن أطفالاً، على ظهورهن، يمشين بصمت، ويتبعهن أطفال حفاة، معفّرون بالتراب، وجوههم مستديرة وعيونهم كذلك. أصابني الضجر بعد ساعتين من التأمّل؛ اختفتْ خلالهما الغيمتان وتبدّل موضع الشمس. أما أسراب السنونو، فقد تكاثرتْ بصورة ملفتة، كأنّها تتحدّى عجزي عن اصطيادها. في تلك اللحظة، أخرجتُ ورقةً بيضاء في سعي لكتابة انطباعاتي عن الزنوج وبلادهم. توقّفتُ عن الكتابة بعد أسطر قليلة. حدّثتُ نفسي أن من السخافة أن أكتب عن بلادٍ لم يمضِ لي فيها يومٌ واحدٌ بعد. فكّرتُ أن من الأجدى الكتابة عن ضيعتي، «مرج الريح». فحين يبتعدُ المرءُ عن موطنه، يصير بوسعه أن يراه بوضوح، وأن يكتب عنه بحيادية. هكذا وجدتُني أكتبُ عن ذلك اليوم الذي دخلتُ فيه دكان جدي المحاذي لجامع البلدة القديم. وجدتُه منصرفاً بكلّيته إلى العمل، منكبّاً على حذاءٍ أسود، يثبّت في كعبه مسماراً. جلستُ بجانبه على كرسيّ ذي شبك، ورحتُ أتأمّله بصمت وهو يواصل شغله. شال مسماراً فضّياً من فمه، ثبّته بطرقتين في كعب الحذاء الذي ما لبث أن طواه بكلتا يديه لكي يتأكّد من جودة عمله. سألني، بعد برهة، عن أحوالي، وهو يقلّب الأحذية والنعال المكدّسة بعضها فوق بعض على الطاولة أمامه. أجبتُه: «منيح.. الحمد لله!» فهزّ العجوز برأسه وتناول حذاءً آخر. قلّبه بين يديه. ثم تخلّى عنه وأعاده إلى الكومة مستبدلاً إيّاه بسكربينة حمراء. تنحْنحْتُ وأنا أنظرُ إلى الضوء الواهن فوق رأس الإسكافي العجوز. ثم تمتمتُ بنبرة متردّدة: «بدي سافر ع أفريقيا يا حاج!». توقّف العجوز للحظة قصيرة عن وضع الصمغ في أسفل السكربينة. حملق إليّ بعينين غائرتين؛ غيّر العمرُ لونهما، قبل أن يواصل عمله من دون أن ينطق بشيء. أصلحَ السكربينة وناولني إيّاها. أشار إليّ أن أضعها فوق منضدة على يميني، إلا أنني وضعتها في حجري. التقطَ العجوز صامتاً الحذاء الذي تخلّى عنه للتو. ثبّته بين لسانيْ ماكينة حديدية وطفق يدير دولاباً صغيراً، محرّكاً بواسطة كتلة حديدية مضتْ تخيّط الحذاء مثبّتةً جلده بإحكام. بعد سكوت، نطق كمن يكلّم نفسه: – خيّاكْ سافرْ ع ألمانيي وإنتي مسافرْ ع أفريقيي.. وربّك أخد أمانة بيّيك.. لمين تاركْ امّك واختك.. ها؟ – مِش حَ غيب كتير يا حاج.. أفريقيا غير ألمانيا.. الناس بأفريقيا بتغنى بسرعة. بقولولكْ الألمازْ معلّق على الشجر والأفريقي كتيرْ بسيط. تصوّرْ.. بيعطيكْ حبةْ ألمازْ حقّها أكتر من مليون دولار مقابلْ كيس رز.. تمتم العجوز: – هيدا كلّو حكيْ..! – طيّب.. إذ كان كلّو حكيْ، كيف خالي، غسان، عملْ مصاري!؟ امتعض العجوز ما إن سمع اسم ابنه العاصي. ردّ بعصبيّة يُعرف بها: – الله يلعنك ويلعنو.. ابتسمتُ لأنني أعرفه سريع الغضب، والشتيمة تحت لسانه. طلبتُ منه بتحبّبٍ: – احكي لي معو، يا حاج، بلكي بياخدني لعندو ع أفريقيا! حدّق العجوزُ إليّ من أخمص قدميّ حتى رأسي غير مستمرئ قطّ اتهامي له بالتواصل مع ابنه العاصي والمهاجر إلى أفريقيا منذ أكثر من عقدين. وهو الذي يحرص على التبرؤ من ابنه، بل وشتمه في كل مرة يُذكر فيها اسمه في مجالس الضيعة، بيْد أن الجميع كانوا يعلمون أن غسان لم ينقطعْ يوماً عن التواصل مع أبيه، بل وإرسال المساعدات المالية له من وقت لآخر؛ وإلا كيف يمكن لإسكافيّ عجوز أن يُكمل بناء داره الواسعة عند مشاتل التبغ في خراج الضيعة؟ تابع العجوز عمله وهو شارد الذهن. ربما ذهب فكره إلى ابنه العاصي. ربما ذهب إلى أمر آخر. المهم أن المطرقة سقطتْ على سبابته وهو يثبّتُ أحد المسامير. فشدّ على فمه من شدّة الألم. حين حرّك شفتيه، عرفتُ أنه سيسبّ العُرض. فنهضتُ على عجل وغادرتُ الدكان مسرع الخطى، لا ألتفتُ إلى الوراء. حين رجعتُ إلى البيت، وجدتُ الوالدة تغسل الملابس. تعصرُها بيديها الحنونتين، وتضعها في سطل أزرق متوسط الحجم. عندما سألتُها إن كان لديها عنوان أخيها في أفريقيا، جحظتْ بعينيها وضربتْ صدرها بباطن كفّها، في حركة هي عادة فيها. ثم برطمتْ: – «وشو بدّك فيه لخالك، ها؟ الله يلعنك ويلعنو؟!». – بدّي روح لعندو.. – يا شحاري.. شو بدّكْ تعمل عندو؟ – بدي اشتغل بالألماز.. بدي صير غني.. يعني نظل فُقرا أحسِن؟! لوتْ برأسها. قالت بصوت متردّد: – إيهْ نظل فقرا أحسِن! بعدينْ ما بعرفشْ عن خالكْ إشي! أضافتْ وهي تحمل السطل إلى باحة الدار حيث حبل الغسيل: – وما بديش أعرفْ! لم أصدّقها. تحيّنتُ فرصة مغادرتها البيت في المساء لكي أفتّش في أدراجها عن أي أثر للخال المغضوب عليه. عثرتُ على صورة له يعود تاريخها لعام 1946، وعثرتُ أيضاً على رسائل منه مطوية في كيس مخملي أحمر. عندما شرعتُ بقراءتها، وجدتُها ذات أسلوب ركيك؛ لا شيء فيها غير سلاماتٍ وأمنياتٍ وطلبٍ للمغفرة عن خطيئة لم تُذكرْ ماهيتُها في أيٍّ من تلك الرسائل المرسلة في فترات متباعدة، ومن عناوين مختلفة، آخرها في شرق أفريقيا.

مشاركة :