في هذا اليوم الخامس من مايو 2018 تحتفل القوى الديمقراطية والتقدمية بذكرى مرور مائتي عام على ميلاد ماركس. وفي هذه المناسبة، نصب في مدينة «ترير» الألمانية مسقط رأسه تمثال مصنوع من البرونز يبلغ ارتفاعه مع قاعدته التحتية 5.50 أمتار، والتمثال هدية من الصين. كما أصدرت ألمانيا أوراقًا نقدية تذكارية بقيمة صفر يورو تحمل صورته. عن فكر ماركس الفيلسوف المشهور كُتب الكثير، وتحديدًا عن إسهاماته الاقتصادية والفلسفية التي جعلت العالم يعيش تحولات لم يعرفها من قبل، بمعنى أن علمه وفلسفته غيَّرت مجرى التاريخ. منذ أكثر من ثلاثة عقود كتب الكاتب الامريكي ميشيل بارينت: «ان الماركسية ليست علمًا بالمعنى الوضعي، تصوغ فرضيات ضيقة، تجري اختبارات من أجل التنبوء، وتجترئ شرائح من الواقع للفحص الميكروسكوبي، إنها علم يبين لنا كيف نفكر أكثر مما تبين فيم نفكر، وكيف نصل إلى الفكرة بشكل منتظم، منتقلين من الخاص إلى القوى الأكبر التي تؤدي دورها، ومن المظاهر السطحية إلى الأشياء الأعمق، لكي ندرك بشكل أفضل كيف تتفاعل العلاقات الاجتماعية والبنية الطبقية، وكيف تشكل الخبرة الإنسانية، والماركسية كذلك علم من حيث انها تعترف ولا تنكر الصلات بين المكونات المختلفة للنظام الاجتماعي بكامله». ويوضح ذلك بقوله: «عندما ندرس أي قسم من هذا النظام، وليكن وسائل الإعلام، او العدالة، او الإسكان او التدخل المسلح او الكونجرس، او العنصرية أو البطالة او الانتخابات أو أي شيء آخر. فسنرى كيف يعكس القسم في إطار خصائصه طبيعية الكل، وكيف أنه في ديناميكيته الخاصة يخدم النظام الأكبر، وبخاصة المصالح الطبقية السائدة للنظام». وباختصار، فالماركسية علم يساعدنا على فهم أهم الحقائق وأكثرها إلحاحًا. وإنها كذلك التزام نحو التغيير التقدمي، التزام بأن تكون إلى جانب التاريخ لا ضده. والرسالة التي يتركها ماركس لنا هي أنه لا ينبغي علينا أن نحب العدالة الاجتماعية أكثر من المكاسب الشخصية فقط، وإنما قد نجد أعظم مكسب شخصي في العمل والنضال من أجل العدالة الاجتماعية، وتعلمنا الماركسية أننا نكون أقرب إلى إنسانيتنا الشخصية الخاصة عندما نقف مع كل البشرية. في تأملاته الشخصية كتب بارينت في ثمانينات القرن الماضي: «بإمكانك أن تشق طريقك إلى أعلى مستويات البحث في أمريكا وتحصل مثلاً على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة (بيل)، دون أن تتاح لك الفرصة أبدًا لكي تدرس أعمال كارس ماركس، أو أيًا من الآداب الغنية التي ظهرت من بعده»، وأنا أعرف أن ذلك حقيقة، فقد حدث لي ولأكاديميين وطلبة كليات ممن يُدرس لهم -دون ان يدرسوا الموضوع بالفعل- أن الماركسية هي «تبسيط للأمور» وأنها «غير علمية» وأنها «بعيدة عن الواقع» لأنها تتناول مجموعة محددة في ظروف القرن التاسع عشر ولا تنطبق على أمريكا الحديثة اليوم «فيما بعد الرأسمالية». ومن بين ما قاله لينين عن الماركسية: «إن التمسك الحازم والثابت بنظرية ومنهج ماركس وإثرائها على أساس الخبرة التاريخية والمنطق الداخلي الذي يحكم هذا المذهب، يشكل الأسلوب الوحيد للاستيعاب الخلاق للماركسية لتطبيقها وتطويرها». وهنا -كما يقول- يهمنا أن نؤكد هذا؛ لأنه حتى في صفوف هؤلاء الذين يعدون أنفسهم على صلة وثيقة بحركة الطبقة العاملة يتحدثون بين حين وآخر عن أن الوقت قد حان لتجاوز «الماركسية وتنحيتها جانبًا». ماركس كغيره من الفلاسفة حركتهم المسائل الملحة لعصرهم، وما حرَّك ماركس من رأي بارينت وغيره من المنظرين هو منظر الأطفال الذين يعملون 14 ساعة في اليوم في المصانع، وظهور الرأسمالية أمام عينيه، الرأسمالية التي تحوِّل كل شيء إلى صورتها الغريبة، وإن كان ماركس بالتأكيد يعرف أنه قد بدأ في مهمة عظيمة سرعان ما حملته إلى بناء نظام عظيم من الأفكار. لكن لقد كان يحركه في الأساس حب الإنسانية وكراهيته للزيف والظلم، ورغبته في أن يضع الحقيقة مرة أخرى على قدميها. من هنا كان الإسهام الكبير للماركسية يكمن في صياغة نظرية ثورية علمية جدلية تسلح بها الطبقة العاملة خلالها نضالها الطبقي. لم يصل ماركس، كما يبين د. خليل اندراوسي في مقال له عنوانه «الفلسفة الماركسية وتطور المجتمع»، إلى استخلاصاته مجرد باحث، وإن كان قد أجرى أبحاثًا عميقة، ففي أربعينات القرن التاسع عشر انغمس ماركس جمهوريا وديمقراطيا ثوريا في الحركة التي أدت إلى ثورة عام 1948، وقد توصل إلى طرح استخلاصاته وأفكاره وفلسفته سياسيا نشيطا يسعى إلى فهم الحركة الثورية التي أسهم فيها لكي يساعد في توجهها إلى هدف تحرير الشعوب من القهر والخرافة والاضطهاد والاستغلال. في مقابلة أجرتها القناة الألمانية (dw) مع الفيلسوف الألماني المعاصر «اندرياس آرنت»، قال ردًا على سؤال: لقد ساد الاعتقاد حتى فترة وجيزة أن الفكر الماركسي قد مات، لكن مؤلفاته المنتقدة للاستغلال الاقتصادي والظلم في ظل الأزمة المالية عادت إلى الواجهة أكثر من أي وقت مضى. ما الذي يمكننا اليوم أن نتعلمه من كارل ماركس؟ قال: مشروع ماركس الكبير هو محاولة للإجابة عن السؤال الآتي: كيف يمكن أن يستقر أي نسق؟ وهل يمكنه أن يستقر فعلاً؟ وقد توصل إلى نتيجة مفادها أن النسق او النظام كيفما كان لا يمكن أن يستقر على المدى البعيد. وما نلاحظه حاليًا في أسواق المال هو جزء من التغييرات التي لاحظها ماركس، وما لاحظه هو أن هناك حاجة متزايدة إلى رأس المال، ورأس المال هذا لا يُستثمر في الإنتاج، وإنما في المضاربات المالية!
مشاركة :