بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاده يُستعاد كارل ماركس عبر العديد من الأسئلة التي تتناوله. مجموعتان من الأسئلة التي كثيراً ما تُطرح تستحقان الاهتمام بشكل خاص. المجموعة الأولى تتمحور حول راهنية ماركس لعصرنا وبخاصة في ظل الأزمات الاقتصادية التي تشهدها الرأسمالية. راهنية ماركس، لدى العديد من الذين يتصدون للإجابة، تتجلى في تنبؤه بهذه الأزمات التي تصيب الرأسمالية، فمع كل أزمة سنقرأ أن ماركس سبق وتنبأ بهذا. المجموعة الثانية من الأسئلة تدور حول العلاقة بين ماركس وفكره من ناحية وتجارب الاشتراكية الواقعية التي شهدها القرن العشرون من ناحية أخرى. ف يما يتعلق بالنقاشات المرتبطة براهنية ماركس فإنه من النادر أن يتطرق النقاش وبعمق إلى فهم ماركس للرأسمالية وتحليله إياها، بل عادة ما يبقى التحليل على السطح مرتبطاً بالتناول السياسي لقضايا محددة، من عدم استقرار النظام الرأسمالي وإمكانية انهياره والأزمات التي يشهدها. اللافت أن تحليل ماركس لأزمات النظام الرأسمالي، مثلاً، يدور أساساً حول أزمات منشأها قطاع الإنتاج. بينما الأزمات التي نشهدها في الفترات الأخيرة نشأت عن القطاع المالي وأدواته وليس عن قطاع الإنتاج في شكل مباشر. لهذا لا يمكن القول بيقين وسهولة أن هذه الأزمات هي ذاتها التي سبق لماركس أن تحدث عنها. الربط بين تحليل ماركس للأزمات ولما نشهده من أزمات يحتاج إلى قدرة تفسيرية وتحليلية للربط الضروري بين نوعي الأزمات، وهو ما يفتح نقاشاً جدياً وواسعاً حول تحليل ماركس للقيمة وتراكم رأسمال المال ورأسمال المال الثابت والمتغير والانتقال من القيمة إلى السعر وهي جميعها مسائل إشكالية، وقد سبق ودارت حولها جدالات واسعة مثل تلك التي تناولت مدى صلاحية مفهوم القيمة وعلاقته/ تناقضه مع السعر. يضاف إلى هذا أن ماركس لم تكن لديه حقيقة نظرية حول النقد، وأن كل ما نراه من تضخم لرأسمال المال المالي وأدواته حصل بعد ماركس. يتناسى العديد من المساهمين بهذه النقاشات العامة أن كثراً من المفكرين، السابقين على ماركس أو اللاحقين، سبق وقدموا الكثير من الآراء التي تشبه آراء ماركس. فعدم قابلية الرأسمالية للاستقرار بشكل ذاتي أصبح فكرة مركزية في السياسات الكينزية التي انتُهجت بعد الركود الكبير والحرب العالمية الثانية. يصدق هذا أيضاً على مفهوم الأزمات الدورية الذي طور من خارج التقاليد الماركسية، وقد تم دمجه لاحقاً في التحليل الماركسي كما مع الدورات الطويلة لكوندراتيف. كذلك تعود الأفكار التي تركز على نقد الرأسمالية التي تنشر الرخاء والفقر في نفس الوقت، أي الفقر غير الطبيعي، إلى ما قبل ماركس. في ما يتعلق بالمجموعة الثانية من الأسئلة تميل الإجابات إلى التشديد المحق على أن أفكار ماركس الأساسية وتصوراته حول الاشتراكية والشيوعية متعارضة وبعمق مع ما شهدناه من تجارب الاشتراكية الواقعية. لكن ما تغفل عنه هذه التأكيدات أن أفكار ماركس ذاتها قد لا تقطع ومن البداية مع إمكان تطويرها في هذه الاتجاهات التي شهدناها، وفي سياقات تاريخية محددة قد يصبح هذا الاتجاه في تَمَثّل ماركس مهيمناً، ولهذا فإن كل التجارب الاشتراكية عبرت عن انحيازات وتصورات متشابهة ومشتركة وكأنها ضرورة تاريخية لمثل هذه الأفكار. النقطة التي أود التأكيد عليها هي أن العودة الدائمة لماركس لا يمكن تفسيرها انطلاقاً مما تقدمه النقاشات المستعادة دوماً حول راهنية ماركس أو رفض ربطه بنتائج الاشتراكيات الواقعية. لن نفهم راهنية ماركس من خلال ما نقرأه عموماً حول راهنية ماركس، بل إن راهنيته تقع في مكان آخر، وهي تفسر لنا هذه الاستعادة الدائمة له. هناك سببان لمثل هذه الاستعادة. الأول، أن ماركس -وبلغة نبوئية مختلفة عن الآخرين - يقدم لغة كلية تجمع بين لحظتي التفسير والنقد عبر تقديم فلسفة تاريخ شاملة تعطي للتاريخ معنى وغاية: من أين أتينا ولماذا نحن هنا وإلى أين نحن ذاهبون. هي لا تفسر وحسب، بل أيضاً تهبنا معاني نكافح من أجلها، معاني موجودة في صلب العملية التاريخية. فلسفة التاريخ الماركسية- بهذا المعنى- ليست إلا صيغة علمانية لتاريخ الخلاص، وماركس هنا هو ماركس النبي، الرائي. حكاية أساسية تسمح لنا بتحديد مكاننا، كما أنها أيضاً تُمكن العديد من الحكايات الصغرى بأن تتضافر لتشكل أجزاء مختلفة من الحكاية الكبرى، فتسمح لجماعات مختلفة- بدءاً من الشعوب المستعمَرة إلى النساء والمثليين والأقليات- بأن ترى في كفاحها ونضالها جزءاً من النضال الكبير من أجل التحرر. الحكاية لا تقدم لنا نفسها بوصفها فقط حكاية ذات قوة أخلاقية كبيرة، بل إنها أيضا حكاية علمية، هكذا هو التاريخ وأنت على الجانب الرابح منه، وبالتالي فإن تضحياتك ستُحفظ في المعنى الكبير له. هذا ما تركه لنا ماركس، تاريخ خلاص معلمن يجمع بين العلم والقيمة، مفسحاً في داخله مكاناً للجميع. اليوم، هذا هو تحديداً ما نفتقده. لم يعد بإمكاننا جمع القيمة والعلم في رواية واحدة. لم تعد لدينا حكاية كبرى تجمع كل الحكايات الصغيرة تحتها، بل تشظت حكاياتنا، وصار «الفقراء» في مواجهة بعضهم بعضاً. لم يعد لدينا أفق للخلاص، ولا يوتوبيا نلجأ إليها. بالطبع، تاريخ الخلاص المعلمن حمل معه كل سمات الأيديولوجيا التي تشبه الدين في طقوسها وشعائرها وانضباطها الأخلاقي والفداء الذي يرافقها. وهذا أمر مفهوم تماماً وضروري لكل فكرة تسعى إلى أن تتحول إلى قوة قادرة على الحشد والتعبئة ودفع الناس إلى النضال. لتحقيق هذا، يتوجب على الفكرة أن تتحول إلى نظام من العقائد المترافق مع ممارسات ثقافية (طقوس وشعائر) تسمح بخلق هوية جماعية فاعلة وتؤمن صيانتها وتعزيزها. هنا نأتي إلى الدور المهم الذي لعبته الاشتراكيات الواقعية خلال القرن العشرين عبر تأسيسها لعبادة ماركس وما يترافق معها من طقوس وشعائر تدور حول عبادة هذه الشخصية. المثير للاهتمام أن هذه الشخصية، ولأنها لم تعاصر هذه التجارب، تم إبعادها من اليومي والمباشر للنزاعات حول السلطة التي عرفتها هذه التجارب، لقد تم تنزيه ماركس تماماً. غير أن هذا التنزيه خدم النزاعات التي نُزه عنها، فكل نزاع كان يُخاض تحت شعار العودة إلى ماركس الحقيقي، من التخلي عن الستالينية إلى البيريسترويكا إلى نزع الماوية وهلم جرا. عبادة ماركس التي رعتها التجارب الاشتراكية الواقعية مترافقة مع تنزيهه هو ما سمح للناس في أرجاء المعمورة بمعرفة ماركس من دون تلويثه بما حصل في تجارب الواقعية الاشتراكية. إن غالبية المحتفين اليوم بماركس ويرفعون صوره في المظاهرات لم يقروأ «رأس المال». ماركس الذي نستعيده هو ماركس النبي، ماركس الذي يروي لنا تاريخ الخلاص ويقدم لنا حلم الثورة والتمرد والتغيير، أكثر منه ماركس التاريخي وما نظّر له فعلاً. إننا نستعيد ماركس لأننا نفتقد اليوم وبشدة هذا الأمل بالخلاص، الأمل الذي يجمع بين التفسير والقيمة. * كاتب سوري
مشاركة :