القاهرة - انتقلت منصات الإفتاء العشوائي من محاضرات ووسائل إعلام السلفيين إلى المدارس، ما ضاعف من خطورة ظاهرة “المدرس المفتي” و”المدرسة المفتية”، اللذين يستغلان مركزهما كقدوتين ونفوذهما المستمد من سلطة منحها إياهما نظام يجعل المدرس مصدر جميع السلطات ومصدر المعرفة الوحيد. تواصلت “العرب” مع العديد من الأسر في نطاق محافظة البحيرة، شمال القاهرة، وهي أحد معاقل التيار السلفي في مصر ومسقط رأس حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان، ونشأ بها أحد أشهر خطباء التيار السلفي وهو الشيخ عبدالحميد كشك. قالت والدة الطفلة إكرام إنها عادت ذات مرة من المدرسة لتحكي تحذير مدرسة اللغة العربية التي لا ترفع نقابها أثناء الشرح من سماع الأغاني ومشاهدة الأفلام. وأوضحت أن المدرسة وتدعى عطيات، قالت لتلاميذ وتلميذات الفصل السادس الابتدائي بإحدى مدارس مركز الدلنجات في البحيرة إن من يشاهد الأفلام بما تعرضه من مناظر خليعة مصيره جهنم، ومن يستمع للموسيقى سيصب الله في أذنه الرصاص المحمي المذاب. وسبب اسم التلميذ رؤوف سالم، لأسرته مشكلة بإحدى مدارس مدينة دمنهور بالبحيرة، بعدما طالبه مدرس الدين واللغة العربية بتغييره لأنه اسم من أسماء الله الحسنى، وكان يحذر من التسمي بأسماء تشبه أسماء المسيحيين والأجانب قائلا “لا يجوز التسمي بغير أسماء الصحابة والتابعين وأهل بيت النبي”. وفي مدرسة تابعة لمنطقة إيتاي البارود الابتدائية، نقلت أم عن ابنتها الطالبة ما ذكرته مدرسة لغة عربية تدعى أمورة، أفتت لهم خلال شرحها لدرس من الدروس أن شم النسيم “عيد الربيع” حرام وبدعة وأن المسلمين لا يجوز لهم الاختلاط بالمسيحيين ومشاركتهم أعيادهم والتشبه بهم في ما يحتفلون به كونه مرتبطا بعقيدتهم. وحرمت إحدى المدرسات في مدينة كفر الدوار، الاحتفال بعيد الأم وعللت ذلك بكونه ليس من أعياد المسلمين، وأفتت للتلاميذ بحرمة الاحتفال بالمولد النبوي وشراء حلوى المولد، والاحتفال بأعياد الميلاد بحجة أنها تشبّه بالكفار، ولا يوجد دليل على أن الرسول احتفل بعيد مولده. لا تنحصر الظاهرة في حدود المرحلة الابتدائية، ففي إحدى المدارس الإعدادية تحكي إحدى الطالبات عن أن مدرسة لغة عربية اعتادت طرح قضايا وأفكار دينية إشكالية، حذرت طلاب الفصل الثالث الإعدادي من أن يفكر أحدهم في الكون وأسراره عندما سألتها طالبة عن وجود الله، زاعمة بأنه “وسواس إذا أتاهم فعليهم البصق على يسارهم ثلاثا”. النظام التعليمي العقيم ساهم في تحول الكثير من المدرسين إلى مفتين يكرسون الأفكار المتشددة في عقول التلاميذ ويجد طارق أبوالسعد، الخبير في الحركات الإسلامية، وهو أيضا أخصائي اجتماعي بمدارس الأندلس الأهلية بدمنهور، أنها أزمة مجتمع لا أزمة تعليم. فالمدرس مفت والشيخ يمارس الطب والحجامة. والإعلامي والمذيع داعية إسلامي، مشددا على أن إصلاح المدرسة لن يتحقق قبل إصلاح المجتمع. وأوضح لـ”العرب” أن مدرسي الدين بالمدارس الابتدائية على وجه الخصوص متأثرون بدعاة الفضائيات، وتحول الداعية إلى نجم مشهور دون حصيلة معرفية وتربوية كافية، والبعض من المدرسين ممن لديهم بعض المعلومات الأولية المستقاة من الأفكار السلفية المتشددة يتقمصون شخصية الداعية النجم ويستعرضون معلوماتهم السطحية على التلاميذ. وأسهم النظام التعليمي العقيم في تحول الكثير من مدرسي الدين واللغة العربية إلى مفتين يكرسون الأفكار والتصورات المتشددة في عقول التلاميذ، حيث الاعتماد على الحشو التلقيني، علاوة على كون المعلم والكتاب المدرسي المصدر الوحيد للمعرفة. وكرس هذا الأسلوب بسبب ما يمتلكه المعلم من سلطة نافذة من منهجية الإذعان، من خلال “مرشد” يعرف كل شيء ويصب ما لديه من معلومات في عقول أطفال لا يعلمون شيئا، الأمر الذي يصعب تحققه في نظام تعليمي منفتح يعتمد آلية الحوار والنقاش وتنمية المهارات الفردية. وتستثمر الجماعات الأصولية هذا الأسلوب التلقيني في تجنيد المتخرجين من المدارس أثناء المرحلة الجامعية، بعد أن يكون الشاب تشرب الأفكار الدينية المتشددة ونضجت عقليته المتصلبة الأحادية وصار أكثر تقبلا لفكرة المرشد وأمير الجماعة، بعد أن اعتاد التلقي دون نقاش من سلطة أعلى. وتحظى صيغة “أمير الجماعة” باستجابة تربوية سريعة لدى طلاب الجامعة الذين تلقوا المعرفة الدينية والأوامر خلال مرحلة التعليم الابتدائي من شخص واحد كان يقدم نفسه لهم بأنه هو من يملك المعرفة الحقة دون سواه. وأشار محمود كامل الناقة، الخبير في التربية والتعليم وطرق التدريس والمناهج، إلى أن المدرس نفسه ضحية منظومة متكاملة، فهو يؤدي وينتج ما تربى عليه وتعلمه، كون ذلك دورة حياة ثقافية راسخة في البيئة المجتمعية. وأكد لـ”العرب” خلو مقررات التربية الدينية من المعلومات والإجابات الوافية لحاجات وأسئلة التلاميذ والطلاب في مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، وعندما تعجز المناهج عن حل الإشكاليات المتعلقة برغبة الطفل في معرفة كل ما يتعلق بالكون والدين والحياة، يتصدر المدرس للإجابة بما لديه من ثقافة دينية منتشرة بالمجتمع. وشجعت البيئة المنتجة بطبيعتها للأصولية، جماعة الإخوان والحركة السلفية على اختراق النظام التعليمي والتربوي في سياق التنافس بين فصائل التيار الديني على امتلاك ساحة تشكيل وعي وعقل الطفل منذ الصغر. ويحدث ذلك في ظل عدم حضور التنظيمات الإسلامية بنفوذها المجتمعي السابق، بالنظر إلى وجود الآلاف ممن يحملون التصورات المتشددة ولو لم يكونوا من المنتمين تنظيميا إلى هيئات ومؤسسات الدولة. وتتمكن الكوادر المتطرفة عبر مهنة التدريس التي تتمتع فيها بمواقع سلطة وتكتسب إعجاب الطلاب، من التجنيد المبكر للصبية في المدارس أو على الأقل تهيئتهم وإعدادهم للتجنيد في مراحل لاحقة. وتبدأ دورة إنتاج شخص متطرف دينيا من نظام التعليم الذي يعد أحد أهم العوامل في تكريس النظرة الأحادية للعالم وللتاريخ وللإسلام، من خلال المدرس الملقن المتقمص لشخصية المفتي، عوضا عن أن يفتح للتلاميذ آفاق الحوار والتفكير في زوايا القضايا المتعددة والبحث في مصادر المعرفة المختلفة.
مشاركة :