خطيب الحرم المكي: التعصب داء يدمر المجتمعات ويكرس الكراهية

  • 5/11/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد المسلمين بتقوى الله وشكره على ما أنَعَّم به علينا من نِعَّم لا تعد ولا تحصى.  وقال “بن حميد”: التعصب داء عضال، وخطر داهم، يقضي على معاني الإنسانية، داء يصيب الفرد، والأمة، والمجتمع، وهو داء حينما يستفحل ويتفشى، فإنه يفتك في الناس فتكًا، وإذا ذر قرنه فإنه لا يفرق بين متعلم وغير متعلم، ومتحضر وغير متحضر، ومتدين وغير متدين، هو أحد مصادر الغرور، ومنابع الظلم، وأسباب الكراهية، وطرق الفساد والإفساد.  وأضاف: التعصب والعصبية من دعوى الجاهلية، وحمية الجاهلية، والتعصب غلو وتطرف، وكراهية وفرقة، وضلال، وشحناء، ونقياد عاطفي مقيت لتصورات، ومفاهيم، ومسالك تتعارض مع الحق والعدل، والموضوعية.  وأردف: التعصب حماس أعمى، ومشاعر جارفة، وأحكام مسبقة، واستهانة بالآخرين، والتعصب خضوع مطلق، وسير من غير بصيرة مع الجماعة، أو الفئة، أو الحزب، أو القبيلة، أو الطائفة، أو العرق .  وتابع: إن التعصب غلو في التعلق بالأشخاص والتمسك بالأفكار، والإصرار على المبادئ، لا يدع مكانا للتسامح، ولا مجالاً للتفاهم، ولا فرصة للقبول .  وقال “بن حميد”: التعصب ينطلق من تصورات مسبقة في تصنيف الناس والمجتمعات إلى فئات دينية، وعرقية، ومذهبية، وقبلية، وسياسية، وفكرية، ومناطقية، ورياضية، وغيرها .  وأضاف: حقيقية التعصب هو عدم قبول الحق ممن جاء به مع ظهور دليله، بسبب ما في النفس من أغراض، وأهواء، وانحياز، كما أن التعصب دفاع بالباطل حينما يرى المتعصب أنه هو الذي على الحق دائماً بلا حجة، ولا برهان، وغيره هو المخطئ دائماً، وهو الذي على الباطل ولو كان معه الحجة والبرهان والعناد، والانغلاق، والتحجر، وعدم التوافق، ورفض التعايش.  وأردف: كلها أنواع من التعصب وكلها تُمدُّ صاحبها بأسباب الكراهية والشحناء، وتفوت فرص الاجتماع والتآلف، وحل المشكلات، والبناء، والتعاون والتعصب لا يجتمع مع التسامح، والانفتاح، وقبول الآخر .  وتابع: التعصب والعصبية داء فتاك يقود إلى اللجاجة، والتقليد الأعمى، ويولد حجابًا غليظًا يصد عن قبول الحق، وقبول الجديد المفيد ويجعل القبيح حسناً، ويقلبُ الحسن قبيحاً، وقد قال بعض الحكماء: “التعصب عدو مستتر، لم يدرك كثير من الناس خطورته الماحقة، وآثاره المدمرة”.  وقال “بن حميد”: العصبية نعرة مهلكة، تنمو في النفس البشرية في البيئة التي تحتضنها يتربى عليها الصغير، ويهرم فيها الكبير، رجالاً ونساء، تمزق العلاقات الاجتماعية، وتسلب روح الوحدة والألفة، وتنشر بذور النفاق والفرقة، وتبدد الطاقات، وتضعف القوى، وتهدم البناء.  وتساءل: هل رأيت أعظم من متعصب يرى شرار قومه خيراً من خيار الآخرين؟، التعصب يورث التمييز، والانحياز، والتصنيف ويبني حجاباً كثيفاً على العقل والبصر، ويمنع من إدراك الحق وابتغائه، والتمييز بين المصلحة والمفسدة .  وأضاف: وللتعصب مظاهر منها: احتقار الآخرين، وتنقصهم، وعدم الاعتراف بأحقيتهم وحقوقهم ومن أظهر مظاهر التعصب تقديم الولاءات على الكفاءات .  وأردف: قد يظهر التعصب في سوء القول والتعبير، وقد يترقى إلى تجنب التعامل مع من يتعصب ضده، ثم يترقى هذا المتعصب إلى أن يمنع جماعته وفئته من التعامل مع هذا المخالف، وقد يصل إلى الاعتداء عليه، وقد يصل إلى قتله والتخلص منه.  وتابع: كم أثارت النعرات العصبية من حزازات سياسية بشعارات عقائدية، وتترست بنداءات دينية، فأنبتت فرقة، وتحزباً، وتشرذماً وكم أدى التعصب في درجاته المتشددة إلى التمييز، والتصنيف، والعدوان، والقتل، وقد يصل إلى الإبادة الجماعية كما يؤدي إلى التشريد، والتهجير، والنفي والتعصب يقود إلى التشويه، وإساءة التفسير، وتجاهل الحقائق والوقائع .  وقال “بن حميد”: أضرار التعصب وخسائره ومساوئه قد سودت صحائف التاريخ، وكم واجه الأنبياء عليهم السلام والمصلحون من عوائق في طريق هداية الناس وإصلاح البشرية، وقائد ذلك ورائده التعصب، وقد قال إمامهم ورائدهم الى النار: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}غافر: ٢٩.  وأضاف: بسبب التعصب، سفكت الدماء ، وضاعت الحقوق، وفشا الظلم، وفي التعصب هدر لطاقات الأمة عجيب، بل هو من أعظم معوقات التنمية فإذا دخلت العصبية خطط التنمية فقل على أهلها السلام، وسواء في ذلك الاقتصادية، أو السياسية، أو التعليمية، أو الإدارية، أو الثقافية، أو الدينية، أو غيرها .  وأردف: قد يسلك بعض الناس مسلك التعصب لإشباع غروره، أو لستر نقص في نفسه، أو خبراته، أو قدراته، أو تسويغ فشله، وقد يوظفه ليجعل له مكانة، أو مركزاً في الدين، أو السياسة، أو الثقافة، سواء كان ذلك في كتابات، أو مؤلفات، أو تكوين أحزاب، وجماعات، وطوائف، ومؤسسات تقوم على الأساس العرقي، أو المذهبي، أو المناطقي، أو القبلي، أو الانتماء الفكري .  وتابع: تشخيص الداء، والكشف عن المرض هو السبيل الأقوم، والطريق الأنجع للعلاج، ومحاصرِة آثار المرض السلبية في المجتمع وفي الحياة ومن أجل هذا فلا بد من النظر في أسباب ظهور التعصب ومثيرات العصبية .  وقال “بن حميد”: يأتي في مقدمة هذه الأسباب التربية والتنشئة الاجتماعية، فمن نشأ في بيئة تغذي العصبية، فإنها تنتج متعصبين، مما ينتج عنه الظلم، والتطاول والفجور في الخصومة، والإقصاء، فالإنسان لا يولد متعصبا ولكنه يأخذ ذلك بالتقليد والتلقي والتربية .  وأضاف: من ذلك غياب القيم والأخلاق من العدل، والإنصاف، والتجرد، والمساواة، مما يولد العدوانية، والكراهية، والانكفاء إلى الفئات والانحياز إلى الجماعات ومن ذلك الغلو في الأشخاص من العلماء، والمشايخ، والكبراء، ورؤساء المجتمع.  وأردف: من أعظم الأسباب وأكبرها إثارة الخلافات المذهبية، والنعرات القبلية، والتمايزات الإقليمية والمناطقية، ومن ثم تثار معها مشاعر الأحقاد والكراهية، وبخاصة حينما يجترون أحداثاً تاريخية سالفة عفا عليها الزمن لم تكن في وقتها مما يُحمد أو يُشرِّف، فكيف وقد دفنها الزمن، ويريد هؤلاء غير الحكماء، أو المغرضون المفسدون إحياءها وإثارتها بل يريدون إسقاط الحاضر على ذلك الماضي غير المجيد .  وتابع: هذا المسلك المنحرف يستنزف القوى، ويهدر الطاقات، ويفرق الأمة، ويشتت الأهداف، ولا ينتج إلا عصبية مقيتة، وتوجهات متطرفة، ومسالك موغلة في الغلو، فيحرمون المجتمع من أن يجتمع على مودة، ورحمة، وأُخوَّة .  وقال “بن حميد”: من هنا تذهب ريح الأمة، وتستباح بيضتها، وتفتح الأبواب مشرعة للأعداء، يدخلون عليها من كل باب، طعناً في الدين، وغمطًا للمكانة، ونهبًا للخيرات، وتقطيعًا للأوصال.  وأضاف: مما يلفت النظر أن بعض القنوات الفضائية وأدوات التواصل الاجتماعي تتبنى مثل هذا بقصد، أو بغير قصد في طروحات، وتغريدات ، ومن خلالها تثور الخلافات المذهبية، والعصبية القبلية، والتمايزات المناطقية، والفتن الحزبية وهؤلاء جميعاً لا ينقصهم إرث تاريخي يؤجج مثل هذا بل إن الإعلام المشبوه هذه بضاعته، وهؤلاء جنوده .  وأردف: أعظم وسائل العلاج تربية الأجيال في مناهج التربية على التسامح، وحفظ حقوق جميع الناس واحترامهم ومن أهم وسائل العلاج سن الأنظمة التي تحول دون التعصب، ووضع سياسات واضحة لمحاربة مختلف أشكال التمييز، والتصنيف، وتحقيق العدل وحفظ الحقوق مع التنبيه لعظم دور الأسرة، والمدرسة، والمسجد، والإعلام بكل أدواته، ووضع الخطط في ذلك .  وتابع: من أكبر وسائل العلاج تحرى الحق، والتسليم له، والسعي إليه وقبوله ممن جاء به . وقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: “من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه” رواه مسلم ويقول عليه الصلاة والسلام لأهل بيته: “لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتون بأنسابكم” متفق عليه ويقول لابنته فاطمة وهي بضعة منه وسيدة نساء العالمين رضي الله عنها وأرضاها: “يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً” متفق عليه وقد قال الله لنوح عليه السلام في ابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} هود: ٤٦  وقال “بن حميد”: العصبيات ما هي إلا غلبة أوهام يستكثر بها الصغار أمجاداً موهومة، انها أمجاد لا تكلف ثمناً، ولا تستغرق جهداً، ولا تنتج ثمراً فالإنسان مسؤول بنفسه عن نفسه، يقدمه ما اكتسب من خير، ويؤخره ما اكتسب من شر فحسب، ويرفعه لباس التقوى ذلك خير .  وأضاف: في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : “ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية” رواه أبو داود، وفي الحديث الآخر: “من قُتل تحت راية عُميَّة يدعو عصبية، أو ينصر عصبية فِقْتَلةٌ جاهلية” رواه مسلم .  وأردف: ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ووطنه، فالتعصب غير الانتساب للقبيلة وغير الانتماء للمذهب وغير حب الوطن، فهذه سنة الله في خلقه، إذ جعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وحبب إليهم أوطانهم وديارهم،{وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} .  واستدرك بالقول: لكن العصبية التعصب للباطل، وغمط الحق، والانحراف عن العدل، والإقرار على الظلم والإعانة عليه، والمفاخرة به من أجل القبيلة، أو المذهب، أو الفكر، أو المبدأ، أو التراب .  وقال “بن حميد”: ما نقلت الخرافات والعادات السيئة والتقاليد المذمومة إلا بسبب العصبية، والتعلق المذموم بالآباء والأجداد، وكلما تلاشت العصبية من الفرد والجماعة، تعامل الناس بحكمة، وعقل، وعدل، وهدوء، ورحمة، وديانة صحيحة.  وأضاف: بنبذ العصبية سوف يزول كثير من أسباب الخلاف والنزاع، ويعيش المجتمع بطمأنينة، ومحبة، وأخوة والمجتمعات تنهض على دعائم الخير والصلاح والتقوى، لا على مزاعم الانتفاخ الأجوف، والعصبية العمياء، ألا فاتقوا الله واعلموا انكم لن تجدوا أسرع من نقض المجتمع وهدم كيانه من آثار العصبية من أي نوع كان، عصبية نسب، أو منطقة، أو مذهب، أو حزب، أو جنس .  وأردف: في هذا يقول الإمام الشوكاني وهو يذكر بعض صور التعصب: “ها هنا تسكب العبرات، ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب على غالب المسلمين لما غلت مراجل العصبية، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لَقَّنهم الزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه بالهباء في الهواء، والسراب بالقيعة، فيا لله هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين والرزية”.

مشاركة :