صفحات من تاريخ العلوم في الحضارة العربية.. الرازي وسر الأسرار (3)

  • 5/20/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

من العمل بالصرافة إلى الموسيقى والضرب على العود والغناء ونظم الشعر إلى الشهرة العالمية في مجال الطب وفنونه، هكذا كان أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي، من علماء القرن الثالث الهجري، ولد بمدينة الري جنوبي طهران بفارس في سنة 250-251 هـ / 864-865 (250-864). وسمي بالرازي نسبة إلى هذه المدينة. تتلمذ في علوم الطب على يد علي بن زين الطبري (صاحب أول موسوعة طبية عالمية "فردوس الحكمة")، والفلسفة على يد البلخي. وكان الرازي متقنا لمهنة الطب، عارفًا بأوضاعها وقوانينها، حتى اشتهر وأصبح معروفًا فأخذوا الطلبة وطالبي العلم من جميع الجهات يقصدونه لكي يتعلموا منه وكان يصر على طلابه أن يواصلوا الدراسات العليا في الطب لإثراء ذلك الميدان من العلوم حيث أصبح بعد ذلك مرجعًا أساسيًا لمعظم الحالات المرضية الصعبة والمستعصية لذلك لقب "بجالينوس العرب". ويعتبر الرازي مؤسس علم الكيمياء الحديثة في الشرق والغرب ففي كتابه "سر الأسرار" تبيانٌ واضح لطريقة إجراء التجارب الكيميائية، فهو يصف المواد المستخدمة، والأدوات والآلات التي يستعملها، وبعد ذلك يصف طريقة تحضير كل مادة، مبينًا نتائجَ التجربة، وعلى هذا النحو وصف ما يزيد على 20 جهازًا، بعضها زجاجي والبعض الآخر معدني، على غرار المستخدم الآن في معامل الكيمياء الحديثة. وكان الرازي بعد ذلك يشرح كيفية تركيب الجهاز، ويدعم شرحه بالتعليمات الواضحة الجلية، وقام الرازي بتحضير عددٍ من الأحماض، وما زالت الطرق التي استخدمها في تحضير هذه الأحماض هي الطريقة المتبعة الآن، ولعله أول من ذكر حامض الكبريتيك، وأطلق عليه اسم "زيت الزاج أو الزاج الأخضر"، وقام بنقله إلى الأوروبيين "البير الكبير" وسماه "كبريت الفلاسفة". وقام أبو بكر الرازي بتقطير الكحول من المواد السكرية والنشوية المتخمِّرة، وكان الكحول يستخدم في الصيدليات وصناعة الأدوية من أجل العلاج. وأول من نقل طريقة أبي بكر الرازي في تقطير الكحول إلى الأوروبيين "أرنودو فيلينتف". وقد تُرجم كتاب الرازي "سر الأسرار" إلى اللغة اللاتينية بواسطة "كريمونا" في أواخر القرن الثانيَ عشرَ الميلادي، وكان المرجع المعتمد في مدارس أوروبا مدةً طويلة. وبواسطة المنهج التجريبِي العلمي، استطاع العلماء المسلمون أن يحضِّروا كثيرًا من المواد الكيماوية، التي تدخل الآن في الصناعات الحديثة؛ مثل صناعة الورق، والصابون، والحرير، والمفرقعات، والأصباغ والسماد الصناعي. و من أعظم وأشهر كتبه الطبية "تاريخ الطب" حيث جمع فيه مقتطفات من مصنفات الإغريق والعرب. ولقد قام الطبيب اليهودي بصقلية فرج بن سالم في عام 1279 م بترجمته إلى اللاتينية. وقد بحث الرازي في هذا الكتاب أمراض الرأس وأوجاع العصب والتشنج، كما عني فيه بأمراض العيون والأنف والأسنان بالإضافة إلى أمور أخرى. كما كتب الرازي كتاب المنصوري في علم الطب وذلك للمنصور بن إسحاق صاحب خراسان، وهو كتاب مختصر نسبيا إلا أنه كان مؤثرا في الطب سواء في الدولة الإسلامية أو الأوروبية حيث ظل الأطباء في أوروبا يعتمدون عليه حتى القرن السابع عشر الهجري، جعله الرازي في عشرة أبواب في الطب. ذكر الرازي فيه تجارب أجراها على الحيوانات لاختبار أساليب جديدة في العلاج وللكشف عن فاعليه بعض الأدوية، وذلك قبل أن يجربها على الإنسان. كما ضم هذا الكتاب وصفا دقيقا لتشريح أعضاء الجسم كله وطبع لأول مرة في "ميلانو" عام 886هـ 1481م، وأعيد طبعه مرات عديدة، وترجمت أجزاء منه إلى الفرنسية والألمانية. وكذلك إلى اللاتينية بواسطة جيرارد في عام 1187م. ويعتبر أجمل كتب الرازي وأعظمها في صناعة الطب " كتاب الحاوي في الطب "، حيث يعتبر موسوعة شاملة في الطب. لقد سجَّل فيه ملحقات عديدة لمؤلفين في الطب الهندي والفارسي والإغريقي والعربي. يقع الكتاب في ثلاثين جزءا تتضمن ذكر الأمراض ومداواتها مما هو موجود في سائر الكتب الطبية التي صنفها السابقون ومن أتى بعدهم حتى أيامه. ومما يدل على خلقه وأمانته العلمية والتزامه بآداب المهنة أنه كان ينسب كل شيء نقله إلى صاحبه. وقد سماه (الرازي) الحاوي لأن كتابه هذا يعد موسوعة علمية طبية تحوي كل الكتب والأقاويل الطبية القديمة من أهل صناعة الطب، ويقع في عشرين مجلدًا. والمادة الرئيسية في كتاب "الحاوي في الطب" هي مذكرات شخصية سجل الرازي فيها آراءه الخاصة، وقصص مرضاه، حيث دون فيه أكثر من 1000 حالة من الحالات السريرية التي قام بمتابعتها وتسجيل ملاحظاته وتجاربه الشخصية مع المرضي لدعم النظريات السابقة أو لدحضها حيث كانت هذه المعلومات قيمه جدا لكل الأطباء في عصره ومن أتوا بعده، ويوحي ترتيب المادة العلمية في هذه المذكرات بأن الرازي كان يدون ملاحظاته في كراسات يضعها في حافظات. وكانت كل حافظة من حافظات الأوراق مخصصة لموضوع من الموضوعات الطبية. وكتابه الحاوي في علم التداوي ترجم إلى اللاتينية وطبع لأول مرة في بريشيا في شمال إيطاليا عام 891هـ - 1486م وهو أضخم كتاب طبع بعد اختراع المطبعة مباشرة أعيد طبعه مرارًا في البندقية في القرن 10هـ - 16م. وقسم كتاب الحاوي في الطبعة اللاتينية إلى خمسة وعشرين مجلدا. تتضح مهارة الرازي في هذا المؤلف الضخم وتتجلى دقة ملاحظاته وغزارة علمه وقوة استنتاجه. اهتم الرازي بالتجربة؛ ذلك لأنها تعتمد على الملاحظة الدقيقة، وتكون النتائج التي يتوصل إليها عن طريقها مقبولة ومعقولة، وفضلًا عن هذا وذاك فإن استخدام التجربة والقياس وسيلة من وسائل دفع المعرفة إلى الأمام؛ فهي تعمل على تحرير العقل من الجمود والتقليد، وهذا لا يعفى من تمحيص الآراء والنتائج المجمع عليها أو التي يتم التوصل إليها عن طريق البسطاء من الناس نتيجة لكثرة ملاحظاتهم. ولأن المجتمع العربي في هذه الأثناء يحتم على الطبيب أن يدرس الفلسفة، وأن يلم إلمامًا جيدًا بها، فقد اتجه الرازي إلى دراسة هذا الفن، ولقد نحا بها نحوًا جديدًا، فلم يجعلها قاصرة على مجرد تحصيل علم المنطق، والبحث في قضاياه ومسائله، بل نطر إليها من مفهوم عام، فامتد مفهومها عنده ليشمل كل العلوم التي تنشط الذهن وتقوى ملكاته، وتعينه على التصور والإدراك، فهي تشمل العلوم الرياضية والطبيعية والمنطقية، فهذه الفروع جميعًا تجعل صاحبها أقدر على الاستنتاج والتحليل، فضلًا عن قدرته على التفسير والتعليل. ويؤكد الرازي على أنه بالعقل أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منا الخفية المستورة عنا.. وبه وصلنا إلى معرفة البارئ عز وجل الذي هو أعظم ما استدركنا وانفع ما أصبنا.. وإذا كان هذا مقداره ومحله وخطره وجلالته فحقيق علينا ألا نحطه عن رتبته ولا ننزله عن درجته، ولا نجعله – وهو الحاكم – محكوما عليه، ولا – وهو الزمام – مزموما، ولا – وهو المتبوع – تابعا، بل نرجع الأمور إليه ونعتبرها به ونعتمد فيها عليه، فنمضيها على إمضائه، ونوقفها على إيقافه" ومن هنا حسب الرازي لا نكون في حاجة إلى سلطة دينية خارجة عن سلطة العقل لكي ترشدنا ماذا نفعل ومالا نفعل، سواء كان مجسد هذه السلطة شيخ أو قديس أو راهب، فالسلطة التي يعترف بها الرازي إنما هي سلطة العقل وحده.

مشاركة :