معظم المجتمع القوي علمياً والمتقدم عسكرياً والمتباهي بحقوقه وعدالته يحمل أحقاداً دينية وتاريخية مزروعة في رحمه تنتج أجيالاً لا تعرف الرحمة بالإنسان وحقوقه في فلسطين. أقيمت في بعض الفنادق التي نزلت فيها في زيارتي الأخيرة لعدة ولايات أميركية حفلات زفاف، ورغم اختلاف الثقافات والحضارات فإن الزواج في غالبها هو مناسبة سعيدة تجتمع فيها العائلات مرتدين أجمل الملابس، ويغمر الجميع فرح وسعادة ودموع وتبادل التهاني، وتتنافس الفتيات على الإمساك بباقة الزهور التي تقذفها العروس وراء ظهرها. ومن المستغرب أنه مهما بلغت العلاقات بين الجنسين تمادياً في الحرام قبل الزواج في الدول العلمانية فإن الزواج يبقى له مكانة مميزة، وكثيراً ما يجثو الرجل راكعاً لطلب الزواج في حين تنفجر الفتاة بالدموع، وعندما تنتهي مراسيم الزواج يقول الموثق: you can kiss the bride now أي تستطيع الآن أن تقبل العروس! رغم أنهما قد عاشا معاً قبل الزواج (living together) وهي منزلة بين المنزلتين وفق تعبير الأصوليين، أولاهما هي منزلة: (boy أوgirl friend) والأخيرة هي منزلة الزواج، وقد تكون الفتاة حاملاً وهذا يجعل طلب الموثق أو القسيس بتقبيل العروس طلباً سخيفاً أو متأخراً كثيراً جدا. وعلى العكس من هذه العادات وجدت أن طائفة الآمش الذين قضيت نصف يوم بينهم أكثر احتشاماً، فالنساء يرتدين ملابس طويلة مع غطاء صغير للشعر، ويرتدي مثلها حتى الصغيرات اللائي لا تتجاوز أعمارهن الأربع سنوات، ولا تعرف الآمش العلاقات المحرمة قبل الزواج، وأبناؤها يعيشون في قرى منعزلة عن المدن الأميركية، ولا يدخل أبناؤهم المدارس الحكومية رغم أنف القانون، وكان الحوار معهم وديا، لكنه متحفظ، وذلك أثناء شرائنا بعض منتجاتهم التي كان أغلبها من الصناعات اليدوية ومن خيرات الغابات المجاورة، وهكذا يعيش نموذجان متناقضان في ثقافتهما في بلد واحد لا تفصل بينهما إلا كيلومترات قليلة. وليس هذا هو المثال الوحيد للتناقض في المجتمع الأميركي، ففي حين يتباهى الأميركي بالعدالة المتناهية وبحقوقه وحرياته التي يمارسها كل يوم في العبادة أو بكل أنواع الكفر والانحلال، وفي المشاركة السياسية والأحزاب والتعبير المطلق عن الرأي والتظاهر، والحرية التجارية وحق الحياة وحق الملكية بلا حدود، وحق النقد والسخرية حتى من الأديان، وحقوق المستهلك وحقوق المرأة والطفل وأيضاً حقوق قوم لوط التي تثير الغثيان، ولكنهم يقفون في تناقض بشع ضد الحق الطبيعي والقانوني للشعب الفلسطيني والمقدسات الإسلامية المغتصبة رغم أنف القانون الدولي، ويا وَيْل أي سياسي يتجرأ على ذكر الحقوق العربية والإسلامية في فلسطين، أو يذكّر هذا المجتمع بالقوانين الدولية التي وضعوها هم أنفسهم، أو يطالب بعودة المسجد الأقصى للمسلمين، أو يدعو إلى إدانة اليهود لقتلهم الأطفال في الأرض المقدسة، فإنها ستكون حينئذ غلطة مميتة لمستقبله السياسي، وهكذا يحمل معظم هذا المجتمع القوي علمياً والمتقدم عسكرياً والمتباهي بحقوقه وعدالته أحقاداً دينية وتاريخية مزروعة في رحمه تنتج أجيالاً لا تعرف الرحمة بالإنسان وحقوقه في فلسطين. فتحية لصاحب السمو أمير البلاد، وفقه الله، على موقفه الإنساني الصلب من قضية المسلمين الأولى الذي عبر فيه عن ضمير المسلمين الحق وحقوقهم رغم كل التناقضات الأميركية والأمراض العربية.
مشاركة :