بدأ المخرج محمد كريم تصوير فيلم «يوم سعيد»، خلال فترة الإجازة الصيفية. دخلت فاتن حمامة الاستوديو لأول مرة، حيث شعرت بأن «بساطاً سحرياً» قد حملها وألقى بها في «بلاد العجائب». كانت محاطة بمشاهد غريبة عجيبة بالنسبة إليها، أضواء ساطعة بشكل مبالغ فيه، وآلات عملاقة، ثم تلك «العين السحرية» التي تحصي الممثلين كلهم وترصد حركاتهم، وتسجل عليهم لفتاتهم. في الاستوديو، استوقف المخرج محمد كريم الصغيرة فاتن حمامة ليلقنها الدرس الأخير: = بصي بقى يا ست فاتن. طبعاً انت عارفة دي إيه. * لا طبعاً، حضرتك ما فهمتنيش إيه دي. = كده. طب يا ستي دي الكاميرا اللي هانصور بيها الفيلم... علشان بعد كده يتعرض في السينما. * كويس... كده أنا فهمت. = أنت هاتقفي هنا. هاتقولي الكلام اللي اتفقنا عليه. وهانصورك بالكاميرا وانت بتمثلي. * خلاص انا عرفت... يلا بقى. = لكن في حاجة مهمة لازم أقولك عليها. * في إيه تاني؟ = لازم تعرفي إن اللي يبص على الفتحة السودة دي اللي في الكاميرا وهو بيمثل يطلع في الفيلم وشه أسود أوي... علشان كدا مش عاوزك تبصي ناحيتها خالص وانت بتتكلمي. * داكور... نبدأ بقى. = نبدأ بقى. جمعت أول لقطة لفاتن بينها وبين محمد عبد الوهاب وفردوس محمد، وكان مطلوباً من الصغيرة، بمجرد أن يدخل الموسيقار الكادر، أن تبادره قائلة: أنت أتأخرت ليه النهارده؟ ما إن نطقت فاتن بالجملة، حتى انفجر محمد عبد الوهاب في نوبة ضحك قوية، فاضطر محمد كريم إلى إيقاف التصوير، وإعادة المشهد، لتعيد فاتن الجملة، وكلما نطقت أول كلمة، انفجر الموسيقار في الضحك بسبب أدائها وكلماتها العفوية، وكان يُضطر محمد كريم إلى الإعادة في كل مرة. ومع أنه نبّه عبد الوهاب، باعتباره المنتج، إلى أنهم يستهلكون بذلك «خاماً» كثيراً، ولا بد من التماسك وعدم الضحك، لأخذ اللقطة، لكن من دون جدوى. حتى أن المشهد أعيد تسع مرات، وفي كل مرة كان محمد عبد الوهاب يغرق في الضحك، فنظرت إليه فاتن نظرة غاضبة، وصاحت بضيق: انت هتشتغل كويس ولا نجيب واحد غيرك؟ لم يضحك محمد عبد الوهاب وحده هذه المرة، بل ضجّ جميع من في البلاتوه بالضحك. ورغم ذلك فإن فاتن ظلت جادة وحاسمة، فهي تعاملت مع هذا العالم، الذي قد يظن من هم في مثل عمرها أنه مجرد «لهو»، بكل تقديس واهتمام، وإحساس بالمسؤولية بأنه عمل، ولا يجب أن يتهاون فيه أي من الموجودين. إحساس بالمسؤولية منذ اليوم الأول استشعرت الطفلة فاتن من كلام وأسلوب المخرج محمد كريم بأنه يحرص على أن يكون البلاتوه بمنزلة «ثكنة عسكرية» لا مجال فيها للتهاون أو التفريط، أو إضاعة الوقت، الأمر الذي استوعبته فاتن جيداً، بل وراحت تطالب به من تضبطه غير ملتزم، إلا سيدة حسناء وجدتها تحضر كل يوم التصوير وتحرص على أن تغدق عليها الهدايا واللعب وكل أنواع «الشوكولاتة»، وعندما يصدر منها تجاوز، كأن تبدي إعجابها بفاتن في مشهد أدته، لا يثور المخرج محمد كريم، ولا يطلب الهدوء كعادته، ويكتفي بإعادة المشهد. حتى جاء المشهد الذي تحمل فيه «أنيسة» صينية كبيرة مليئة بالطعام، لتقدمها إلى محمد، وهنا تحدثت السيدة الحسناء بصوت مسموع: = حرام... الصينية كبيرة وتقيلة عليها. فصاح محمد كريم مجدداً: ـ ستوب! ما كان من فاتن إلا أن وضعت الصينية على طاولة قريبة، وجرت لتحضر الهدية التي أهدتها لها الحسناء وناولتها لها قائلة: * اتفضلي هديتك أهي... وبلاش تعطلينا لو سمحتي. تأثرت السيدة الحسناء لرد فعل الطفلة بهذه الإهانة، فبكت بشدة وغادرت المكان. حينها، شعرت فاتن بأنها أخطأت فلحقت بالسيدة وبصحبتها محمد عبد الوهاب وقالت لها ما سمعته مراراً وتكراراً من المخرج محمد كريم: * أنا آسفة. أصل شغلنا صعب أوي... وبيتعب الأعصاب. ما إن سمعت الجملة حتى مسحت السيدة الباكية دموعها، ودخلت في نوبة من الضحك، ثم احتضنت فاتن وشعرت بأن من الذكاء أن تقدم لها نفسها، فأوضحت أنها السيدة «زينب الحكيم»، شقيقة «زبيدة الحكيم» زوجة محمد عبد الوهاب، وفي الوقت نفسه منتجة الفيلم بالمشاركة مع الموسيقار، الذي نظر إلى الموقف بعينين فيهما كثير من الدهشة، ثم استغرق في الضحك ثانية! كانت فاتن تذهب إلى الاستوديو لتعود منه في آخر اليوم محملة بالهدايا واللعب، ليس من المخرج والمنتج فحسب، بل كان يشاركهما في ذلك الزائرون أيضاً. وكان بعض المشاهد يقتضي غالباً السهر ليلاً، فحرص مدير إنتاج الفيلم على أن يوفر لفاتن أسباب الراحة باعتبارها الطفلة الوحيدة في البلاتوه، فأحضر في الاستوديو سريراً صغيراً. إلا أن المثير للدهشة أنها لم تلجأ إليه أبداً، فقد كان شغفها بالعمل يشدّ جفنيها ويطرد النعاس من عينيها. والأهم أنها لم تترك غيرها ينام، فعندما لا يكون لديها تصوير، تتجوّل في أنحاء البلاتوه، توقظ النائمين، فينهضون خجلاً منها. بداية النجومية انتهى محمد كريم من تصوير الفيلم مع نهاية سبتمبر من العام نفسه، وبدأ العمل على بقية عناصره الفنية، من مونتاج ومكساج وصوت، ليُعرض في 15 يناير 1940، ويحقق نجاحاً غير مسبوق لأفلام محمد عبد الوهاب. لكن الأهم أن الفنانة الصغيرة التي ولدت نجمة كانت تريد أن تطمئن على نفسها، وردود الفعل حول دورها. لمست ذلك بنفسها، عندما نشأت منذ اليوم الأول لعرض الفيلم منافسة جادة بين اسمها الحقيقي «فاتن» وبين اسم الدور «أنيسة»، إذ راحت أقلية من الجمهور تناديها في الافتتاح «فاتن»، فيما اختارت لها الغالبية «أنيسة»، لتتقمص الصغيرة شخصية الفنانة آسيا عندما وقفت تردّ التحية للجمهور في سينما عدن بالمنصورة، وراحت الطفلة تلوح بيدها الصغيرة، فيما يختلس النظر إليها محمد عبد الوهاب، وهو يحاول أن يكتم ضحكاته. بين يوم وليلة، أصبحت الطفلة فاتن حمامة نجمة، باتت حديث كل بيت، ومعبودة الأطفال، وحبيبة الأمهات والآباء. عُلقت صورها فوق سرير كل طفل وطفلة، وأطلق على مواليد الغالبية العظمى من إناث العام 1940 اسم «فاتن»، فقد صارت «موضة» المرحلة. ثم بدأت خطابات المعجبين والمعجبات من الأطفال تنهال عليها، ليس من محافظات مصر فحسب، بل من الأقطار العربية التي عرض فيها الفيلم أيضاً، حتى تفرغ والدها للذهاب كل يوم إلى مكتب محمد عبد الوهاب للحصول على دفعة جديدة من خطابات المعجبين والمعجبات، من الصغار والكبار. ووصل الأمر إلى أن أطفالاً كثيرين من الفتيان، في مثل عمرها، وأكبر قليلاً، أرسلوا في خطاباتهم إليها يطلبون يدها للزواج. ثم بدأ المخرجون والمنتجون يطاردون والدها للتعاقد معه بعقود على بياض، وآخرون يقدمون له عقود احتكار، تشمل بنوداً لرعايتها. غير أن هذا لم يكن ليجدي لأن محمد عبد الوهاب، بذكاء «المنتج الشاطر» سبق الجميع، ووقّع مع والدها عقد احتكار مدة خمس سنوات. وعندما عرض الفيلم في مدينة المنصورة، وصودف أن عادت فور عرضه من إحدى رحلاتها المتكررة مع والدها إلى القاهرة، وقبل أن يغادرا القطار التف الناس حولهما وراحوا يصفقون ويصيحون: = أنيسة... أنيسة... أنيسة! استبد بالصغيرة الغضب، فراحت ترد على جمهورها باقتضاب، ولم يجد والدها مخرجاً سوى حملها على ذراعه، وجاهد طويلاً حتى وصل إلى الباب الخارجي من المحطة. وفيما كان ينتابها غضب شديد مما يحدث، أدهشها أن تجد والدها فرحاً يبتسم لكل من يلتفون حولهما، وهو يعتز بتلك الموهبة الصغيرة الكامنة في طفلته. وما إن وصلا إلى البيت، وما كادت الأسرة تنتهي من غدائها، حتى سمعوا هتافات عالية: = عايزين أنيسة... عايزين أنيسة. فتح والدها الشباك قليلاً ووقف ينظر، وكان المنظر الذي طالعه غريباً... وجد مئات من طلبة «مدرسة المنصورة الثانوية» تتقدمهم «فرقة الكشافة» وهي تعزف بعض المقطوعات الحماسية، فيقاطعونها صائحين: = عايزين أنيسة. خشي عليها والدها، فأمرها بالابتعاد عن الشرفة، ثم استدعى خادماً نوبياً صغيراً يعمل لديهم وطلب إليه أن يخرج يده الصغيرة من الشرفة ليلوح لهم، كأنه «أنيسة» أو فاتن. غير أن الطلبة اكتشفوا الحيلة، وضحكوا عالياً وظلوا في أماكنهم لم يغادروها، وزاد هتافهم: = عايزين أنيسة. جاؤوا من أجل أنيسة، ولن يرحلوا إلا بعد رؤيتها، لذا خرجت النجمة الصغيرة إلى جمهورها، إلى الشرفة تنظر بدهشة إلى المحتشدين حول منزلها. وقفت تشاهد المشهد المثير، وهي تسأل نفسها: لم هذا كله؟ من دون أن تدرك أن الناس تجذبهم الشهرة والأضواء. ثم طلب إليها والدها أن تشكرهم، فأشارت إليهم أن يسكتوا فأطاعوا الأمر، ثم بدأت تخطب فيهم: * أشكركم. أشكركم كلكم. لكن إذا كنتم عايزيني انبسط وأحبكم، قولوا عايزين فاتن فاتن مش أنيسة... علشان أنا بزعل قوي من اسم «أنيسة»... عشان أنا اسمي فاتن. وصاح الجميع: تعيش فاتن... تعيش فاتن. في اليوم التالي صحبها والدها إلى حفلة أقامتها وزارة المعارف بالمنصورة، في النادي الرياضي، وما كادت تدخل المكان حتى استقبلها همس خافت: = وصلت.. وصلت. - أنيسة أهي أنيسة... أهي أهي. تظاهرة حب أمسك والدها بيدها وراح يخترق مقاعد الحاضرين حتى وصلا إلى مقصورة رجال وزارة المعارف، يتوسطهم مدير المنطقة. دُهش والدها عندما نهض المدير من مكانه بمجرد أن اقتربت إليه، وعمد إلى علبة كبيرة من الشوكولاتة وناولها لها، ورأى الحاضرون ذلك فصفقوا طويلاً، واضطر المشرفون على البرنامج إلى تعطيله دقائق حتى انتهت تظاهرة الحب للنجمة الصغيرة. داء الغرور في الشارع بدأ المعجبون والمعجبات، الكبار منهم والصغار، يلتفون حول فاتن أو يشيرون إليها، والنساء يزغردن فرحاً بوجودها. ولم يحدث أن نالت طفلة في الشرق كله النجاح، وبهذه السرعة. كذلك راحت زميلاتها في «مدرسة المنصورة الابتدائية للبنات» ينادينها بذلك الاسم الذي يزعجها «أنيسة»، ما كان يجعلها تغضب وتثور عليهن، فقط لأن الاسم ارتبط لديها بالملابس الشعبية، والمستوى الاجتماعي الفقير الذي يليق من وجهة نظرها «بالخادمات»، فيما ترى أنها أصبحت نجمة. هنا، اضطرت «ناظرة المدرسة» إلى التدخل لحماية النجمة، وأصدرت أمراً مشدداً بحرمان من تنادي فاتن باسم «أنيسة» من الطعام يوماً كاملاً. أما المدرّسات، فأصبحن يعاملنها معاملة خاصة في الصف، ثم يلتففن حولها في «الفسحة» ليمطرنها بعشرات الأسئلة عن التمثيل وكيف يكون؟ وعن دور المخرج وكيف يعمل؟ ثم ينهين أسئلتهن دائماً بالسؤال عن زميلها الكبير محمد عبد الوهاب، ولم تكن تدرك مكانته عند المعجبات، حتى أنها شعرت بالغيرة، وراحت تسألهن، لماذا لم تسألن عن الأستاذ محمد كريم؟ فهو الأهم في نظرها، باعتباره يعلم ويرشد كل من في الأستوديو. بعد ذلك كله أصيبت النجمة الصغيرة بالغرور، ليس على المعجبين والمعجبات وزميلاتها في المدرسة فحسب، بل أيضاً على أسرتها. لحسن الحظ، استشعر والدها الخطر عليها عندما وجد أن الغرور وصل إلى حد أنها تتعامل بعجرفة مع أشقائها الأصغر منها، الذين انضموا إلى العائلة بعد مجيئها، وهم بالترتيب: ليلى، وسمير، وناهد، إلى جانب شقيقيها الأكبر منها منير ومظهر. هي بدأت تتحدّث معهم باعتبارها «النجمة اللامعة» ليس في سماء الفن فحسب، بل في محيط الأسرة أيضاً. حتى جاءت اللحظة التي كان يجلس فيها والدها في غرفته، وسمعها تنهر شقيقتيها الصغيرتين بسبب لعبها وهداياها التي حصلت عليها، وهي تقول لهما: * قلت ميت مرة محدش يمسك اللعب والهدايا بتاعتي... ولا انتم عايزين أعصابي تتعب. = احنا بنلعب بيها بس يا فاتن. * بس مش عايزة اسمع ولا كلمة. اللي أنا أقوله بس هو اللي يتسمع. درس العمر ما إن سمع والدها ذلك الحوار، حتى شعر بخطر داهم على ابنته، فكان لا بد من أن يعيدها وبسرعة إلى طبيعتها. ناداها إلى غرفته، وطلب إليها أن تغلق الباب وتمثل إزاءه. ما إن اقتربت منه حتى صفعها صفعة لم يتحمّلها جسدها الضئيل، فدارت حول نفسها، لينقذها وجود مقعد إلى جوارها أمسكت به قبل أن تهوي إلى الأرض، ثم قال لها والشرر يقفز من عينيه: «انت فاكرة نفسك مين؟ انت ولا حاجة... فاهمة ولا حاجة». كانت هذه أول مرة يصفعها فيها والدها، بل يثور في وجهها أو يغضبها، فهو كان دائماً يدللها ويلاعبها ويحضر لها كل ما تطلبه. غير أنه اضطر إلى القيام بذلك إنقاذاً لابنته التي يحبها، ويخشى أن يدمرها «الغرور». لم تنطق فاتن ببنت شفة، كما لم تدمع عيناها، رغم أن الصفعة أوجعتها كثيراً، إذ كان ألمها النفسي أكبر، حتى أنها ظلت تتحسس خدها أشهراً عدة، فقد شعرت بأن كل من سينظر في وجهها سيرى آثار الصفعة، وربما يسألها عن سببها. والأهم أن ما كان أشدّ ألماً من الصفعة كلمات والدها التي خرجت من فمه كأنها «طلقة رصاص»: «انت فاهمة نفسك إيه؟ انت ولا حاجة». تمنّى والد فاتن بعدها ألا يجد عبد الوهاب دوراً مناسباً لها في أفلامه ليطلبها ثانية بحكم «عقد الاحتكار» خلال هذه الفترة على الأقل، ريثما يعيد التوازن النفسي إلى ابنته. فهي شعرت بأنها أصبحت ملكة متوجة فوق الجميع، وراحت تعامل كل من حولها من «فوق السحاب»، فإذا بالصفعة تهوي بها إلى الأرض لتعيدها تمشي بين الناس، وتتعامل مع أسرتها باعتبارها أحد أفرادها وليست مميزة في أي أمر، ومع زميلاتها باعتبارها تلميذة مثلهن، تتلقى دروسها ولابد من أن تجتهد لتنجح من دون تمييزها عن الأخريات. كانت فاتن من الذكاء أن استوعبت الدرس بسرعة، وصارت كلما ضبطت نفسها تتعامل أو تتحدث باعتبارها «النجمة» تحسست خدها، حتى بدأ تعاملها يتحسن مع الجميع. أولاً، وزّعت ألعابها وهداياها على شقيقتيها «ليلى وناهد»، وأصبحت تتعامل مع الكبير باعتباره كبيراً وهي طفلة، وتتواضع مع زميلاتها فتشاركهن ألعابهن أحياناً، رغم أنها لا تفضلها، وتضطر إلى أن تبتسم في وجه تلك المدرِّسة التي كانت تتعمد أن تعاملها بقسوة، بل وتحرص على أن تجتهد في مادتها تحديداً، إلى جانب العلوم كافة، لتظهر نتيجة الشهادة الابتدائية وإذا بفاتن من المتفوقات الأوائل على المنطقة التعليمية. تزامن خبر نجاحها بتفوق مع خبر ترقية والدها ونقله إلى القاهرة، فقررت فاتن أن تقيم احتفالاً صغيراً في مدرستها تودِّع فيه المدرسات والزميلات، وتشكر الجميع على مساندتهم لها، فصنعت لها والدتها صينية كبيرة من «الكنافة»، وحملها الخادم النوبي مع زجاجات الشراب للتكريم والوداع. في نهاية الحفلة، انهالت القبل على وجه فاتن، حتى جاء الدور على تلك المدرِّسة، التي لا تحبها الطفلة، فتسمرت قدماها ولم تعرف كيف تتصرف، وإذا بالمعلمة تجذبها ناحيتها وتطبع قبلة على خدها. وما إن رفعت فاتن رأسها حتى لمحت دموع المعلمة تنهمر حزناً على فراقها، فمدّت يدها ومسحتها من دون أن تشعر، ثم أمسكت المدرّسة بيدها وجذبتها نحوها وأخذتها في حضنها، وراحا في عناق طويل، فبكت الاثنتان، وبكي كل من حولهما. انتهت مرحلة الدراسة الابتدائية، وعادت الأسرة لتستقر في القاهرة، ولكن ليس في «شارع إسماعيل أبو جبل» في عابدين، بل وجد الأب منزلاً كبيراً يتناسب وحجم العائلة في منطقة «المنيرة» الواقعة بين منطقتي «عابدين» و{غاردن سيتي»، وكان أول ما فعله أن ألحق فاتن بمدرسة «الأميرة فوقية الثانوية» حيث بدأت ابنة الثالثة عشرة مرحلة جديدة من حياتها بكثير من «الشقاوة والبراءة» وسط زميلاتها المراهقات. ربما أبعدت الشهرة فاتن عن عيش تلك المرحلة كبقية أقرانها، غير أنها لم تمنعها من أن تعيشها في حكايات زميلاتها. حتى أنها أحبت كلمة «الحب» قبل أن تعرف معناها، من كثرة ما سمعت عنها من زميلاتها في المدرسة، وما قرأت من قصص وروايات، وشاهدت من أفلام عاطفية، إلى أن وجدت قلبها ينبض فجأة، من دون مقدمات. قرّر والدها أن تستقل فاتن بحجرة بمفردها باعتبارها الأكبر بين شقيقاتها الإناث، وفجأة وجدت في مقابل نافذة حجرتها نافذة في البيت المقابل مغلقة دائماً. لكن فتحات في الستارة لم تكن لتخفي الشاب الذي يقف خلفها ليراقب فاتن دائماً في كل حركاتها وسكناتها، وفي ذهابها إلى المدرسة وعودتها منها، حتى أصبح يسيطر على تفكيرها. كلما سمعت حكاية من حكايات الحب من إحدى زميلاتها سرحت بخيالها في ذلك «الحبيب المجهول» الذي يمنعه خجله من أن يفصح عن نفسه، حتى أصبحت واحدة من أمنياتها أن تفتح تلك النافذة، ويملك حبيبها الجرأة ليعلن لها نفسه. البقية في الحلقة المقبلة
مشاركة :