على طريقة المسلسلات الرمضانية، يدشن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان موسما جديدا من دراما الخطب وردود الأفعال المصطنعة التي يسوقها للاستهلاك الداخلي في تركيا، إلى جانب الحرص على مواصلة الاحتفاظ بنجومية زائفة لدى قطاع واسع من الشعبويين الذين يمثّلون الإسلام السياسي ومنابره الإعلامية. بالنسبة لهؤلاء لن يجدوا أمامهم في الوقت الحالي من يتقن دور المتاجرة بقضية فلسطين أفضل من أردوغان، بعد أن احترقت رموز الإخوان وواجهاتهم السياسية والإعلامية، في ظل تنامي الوعي لدى الرأي العام وعدم تفاعل جمهور الشباب على وسائل التواصل الاجتماعي مع التباكي التقليدي وأسلوب المتاجرة بمعاناة الفلسطينيين. برع أردوغان في أداء هذا الدور خلال المواسم الفائتة في مناسبات متكررة. ونظرا إلى الحاجة إلى تبادل المصالح بينه وبين تنظيمات الإخوان التي تعيش مرحلة من الشتات، تتلقف المنابر الإخوانية مواقف الرئيس التركي، وتضفي عليها مسحة إسلاموية تظهره وكأنه خليفة العصر ومعتصم اللحظة الراهنة، رغم البعد المسرحي الزائف في استثماره للموضوع الفلسطيني. لا ننسى أيضا أن تركيا تستعد لخوض انتخابات مبكّرة أواخر الشهر القادم، وسوف يكون أردوغان بحاجة لاستعادة أصوات المعارضين له من داخل تياره، وخاصة بعد أن قمع الراغبين بالترشح من داخل جماعته، وأبرزهم الرئيس السابق عبدالله غول. وكلما انسدت الآفاق الداخلية في وجه أردوغان، فإنه يلجأ للهرب إلى الأمام، تارة بإعادة فتح ملف الانضمام للاتحاد الأوروبي، وتارة بخطوات التوسع في جغرافية الشرق الأوسط من بوابة الاستثمارات الاقتصادية ووعود الحماية التركية. وأحيانا يلجأ لاستنهاض الروح القومية التركية باختراع تهديدات داخلية أو على الحدود، كما فعل في عفرين على الحدود مع سوريا، وكما يفعل متى ما شاء التلويح بالتهديد بسحب الامتيازات الجزئية التي حصل عليها الأكراد داخل تركيا مقابل وقف العنف في ديار بكر وفي مناطق سيطرة المعارضة الكردية المسلحة. إجمالا ينفّذ أردوغان أجندة إسلامية معتمدة منذ بدء نكبة فلسطين ومحنتها العالقة. فجميعنا نتذكر حملات التبرع وجمع الأموال من قبل حركات وخلايا الإسلام السياسي باسم دعم الشعب الفلسطيني، وعندما كان العقلاء يتساءلون عن مصير تلك الأموال وأين وكيف يتم تصريفها وتوزيعها، كان الإسلاميون يقابلون ذلك بالصراخ ويرفضون التشكيك في مساعيهم المشكوك فيها بالفعل. لأن الأحداث كشفت بعد ذلك أن جميع قنوات الجباية الإخوانية بذريعة التبرّعات كانت تصبّ في منبع واحد هو صندوق مكتب الإرشاد المركزي للجماعة. ولتبرير صرف تلك المبالغ التي تُجمع باسم إنقاذ ودعم الشعب الفلسطيني، استعار الإخوان حينها منطق فقه الضرورة وفقه التبرير للسطو على أموال التبرّعات التي سرقوها من جيوب البسطاء باسم فلسطين. مع الوقت تطوّر نمط المتاجرة بهذه القضية الحساسة، ولم تعد مجرد صنارة تستثمر عدالة القضية وتراهن على عاطفة الناس لدفعهم إلى التبرع بالأموال. وما يقوم به أردوغان مثال حيّ للتوظيف السياسي الإخواني الانتهازي لمحنة الفلسطينيين. الغريب في الأمر أن التطرّف بأنواعه وتناقضاته يلتقي أحيانا في منتصف الطريق ويشترك في غاية واحدة. ولملاحظة التداخل والتقاطع بين أشكال وألوان التطرّف المختلفة في استغلال الموضوع الفلسطيني، يمكن تأمل التشابه بين أداء أردوغان وأداء الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه الموضوع ذاته. بالنسبة لقرار دونالد ترامب، الذي قضى بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، لا شك أنه يعتبر من منظور السياسة الدولية خطوة بالغة الحماقة ومدمرة لكل جهود الإدارات الأميركية السابقة في المساهمة بحلّ أبرز وأخطر قضايا الشرق الأوسط وأكثرها تعقيدا. لكن فشل ترامب في ملفات داخلية كثيرة، وتراكم الفضائح القضائية التي تلاحقه، دفعه إلى توظيف موضوع نقل السفارة الأميركية إلى القدس، مراهنا على توقيت الحدث في امتصاص نسبة من الضغوط الشديدة التي يتعرّض لها وتجعله في حالة مواجهة مستمرة مع الداخل الأميركي على مستوى القضاء والإعلام والرأي العام. الخطب والشعارات التركية الخاوية ضد إسرائيل مكرّسة أيضا ضمن محاولات تركية مستمرة بقصد استعطاف العرب هكذا عثر ترامب على الفقاعة المناسبة في التوقيت الذي يأمل أن يكون مناسبا وأن يخدمه بإزاحة الأضواء عن إشكالات داخلية أصبحت محرجة أكثر من اللازم لرئيس لم يهنأ بأولى سنوات حكمه. وبالقدر ذاته يشترك معه أردوغان الذي وجد في حدث نقل السفارة مبرّرا ملائما لإعادة توظيف واستغلال الموضوع الفلسطيني مرة أخرى. رغم أن مستوى العلاقة بين تركيا وإسرائيل لم يتأثر بشكل يهدد درجات التعاون التي لم تنقطع يوما بين الطرفين. مما يعني أن المواقف المعلنة من قبل نظام أردوغان مخصّصة لذر الرماد على العيون، وموظفة باحتراف ضمن ما تنصح شركات العلاقات العامة بتوظيفه في العالم الإسلامي قبل خوض الانتخابات. الخطب والشعارات التركية الخاوية ضد إسرائيل مكرّسة أيضا ضمن محاولات تركية مستمرة بقصد استعطاف العرب، وتغيير الانطباعات العامة تجاه تركيا الانتهازية بماضيها الاستعماري المتخلف. ومما يجعل من الأسلوب التركي في استغلال القضية الفلسطينية رخيصا للغاية، أن بكائيات أردوغان ووسائل إعلامه تتصنّع التعاطف مع الشعب الفلسطيني، بينما تشير الأرقام إلى أن حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل تجاوز 4 مليارات دولار العام الماضي. وتأكيدا على انتهازية وازدواجية خطاب أردوغان ومتاجرته المتكررة بالقضية الفلسطينية، نلاحظ أن خطوته المسرحية الأخيرة المتمثّلة بطرد السفير الإسرائيلي، لم ولن تبلغ مرحلة التصويت في البرلمان على إلغاء الاتفاقيات التركية مع إسرائيل. ما لا يعرفه بعض المتحمسين لمواقف أردوغان التي يتظاهر فيها بتضامنه مع الشعب الفلسطيني، أن حكومته لم تمس أي بند من مجالات التعاون مع إسرائيل، وفي مقدمتها المجال العسكري. وتاريخياً تأسست العلاقات بين تركيا وإسرائيل منذ شهر مارس 1949، أي بعد مرور عام واحد فقط على نكبة فلسطين والإعلان عن قيام دولة الاحتلال. ومنذ أن اعترفت بها تركيا في ذلك الوقت، أصبحت إسرائيل هي المورد الرئيسي للسلاح إلى تركيا. وتعددت بعد ذلك مجالات التعاون بين الطرفين لتشمل المجالات العسكرية والعلاقات الدبلوماسية والاستراتيجية. وعندما وصل تيار الإخوان إلى سدّة الحكم في تركيا لم يحدث أي تغيير في هذا الملف، باستثناء الشعارات العاطفية الموسمية، على طريقة المواقف والشعارات التي يرفعها هذه الأيام أردوغان، وهو يعلم أنها لن تتطور إلى أبعد من ذلك. عمليا أصيب المحللون بالملل وهم ينتظرون طوال العقد الماضي أن تدخل العلاقات التركية الإسرائيلية منعطفا حرجا. إذ سرعان ما يلاحظ المتابع أن الأزمات بين الطرفين تكون عابرة ولا تطال مستوى التنسيق العالي بينهما. وبالنسبة لتبادل طرد الدبلوماسيين مؤخرا على خلفية رد الفعل التركي (المناسباتي) على نقل الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس، لا تزال تحليلات الخبراء ومن واقع تجارب سابقة تشكك أيضا في أن تصل الأزمة الجديدة إلى مرحلة قطع العلاقات بشكل كامل بين أنقرة وتل أبيب. كان على أردوغان الاستفادة من الفشل الإيراني في التوظيف الانتهازي للقضية الفلسطينية منذ أكثر من ثلاثة عقود. فهو لن يجني من مواقف الزيف سوى تفاعلات آنية سرعان ما تنكشف بعودة العلاقات مع الحليف الإسرائيلي إلى سابق عهدها. المطلعون على خبايا السياسة الدولية يعرفون جيدا أن الإجراءات الحاسمة التي يمكن أن تحدث فارقا، على صعيد حشد موقف عالمي مناهض للخطوة الأميركية الإسرائيلية المنفردة تجاه القدس، لا يمكن أن تتحقق عبر مغازلة الشارع بعبارات حماسية، بل عبر التخاطب مع القنوات المناسبة لتوحيد الموقف الدولي وربطه بمستقبل عملية السلام، بالرهان على أهمية التقليل من العقبات التي قد تواجه أي مفاوضات نهائية مرتقبة لحل النزاع بشكل جذري. أما الصراخ والتظاهر من أجل لفت الأنظار والتوجه إلى القطاعات الشعبية فإنه لا يقدّم ولا يؤخر.
مشاركة :