رغم حداثة منصات التواصل الاجتماعي وولادتها في الزمن الراهن الذي نعيشه بكل تحولاته ومستجداته الحضارية، إلا أن البعض يستخدم تلك المنصات لتمرير أساليب تفكير عقيمة ومتعصبة تتمحور حول تسويق الشتائم ونشر العنصرية وتحميل أقاليم بعينها أعباء قضايا وإشكاليات عالقة منذ عقود. خلال الأيام الماضية انطلقت موجة شتائم تقليدية بأساليب همجية ومستفزة ومتخلفة عبر منصات التواصل الاجتماعي التي يعتقد البعض أنها وُجدت فقط للتهجم والتطاول وإطلاق الأحكام المتطرفة. استهدفت الحملة دول الخليج ومن ضمنها الإمارات، بذريعة استضافة لاعبين من إسرائيل. وكان من الواضح أن الحملة غير بريئة ولا تخلو من خداع الجمهور تحت عنوان عريض ومعتاد يقوم على سيناريوهات خيالية تتحدث عن التطبيع الخليجي. في حين أن التناول المسيء والعدواني اتجه كذلك نحو أبعاد أخرى أقرب ما تكون إلى التهويمات التي تتحدث عن خيانات غامضة. معظم الحملات المتعصبة على وسائل التواصل الاجتماعي تنتهج هذا المسار الذي يخدع المتلقي ويبني على الكذبة الواحدة عشرات الأكاذيب، ثم يتم حشر الرسالة المراد زرعها في ذهن المتلقي بين سطور التغريدات أو مشاهد الفيديو العقيمة والمحتشدة بانفعالات مسرحية مصطنعة. ورغم أن المغرضين يتسترون أحيانا وراء شعارات إسلاموية أو قومية، إلا أنهم يتناقضون مع كل المبادئ والقيم ويتضح انحيازهم لنشر الكراهية وقولبة الآخرين وتسويق تصورات خاطئة عنهم. ولطالما ركزت الحملات ضد منطقة الخليج العربي باعتبار أن الإقليم الخليجي في أذهان مروجي الكراهية يستحق أن يوضع بشكل تلقائي ودائم في خانة الاستهداف والكراهية. ورغم ذلك ينتظرون من دول الخليج أن تقدم المزيد من المساعدات والمواقف وهم يتطاولون عليها وينكرون كل ما قدمته من قبل. لا بد من التطرق إلى هذه الإشكالية التي كانت ضمن المسكوت عنه في الخليج لدوافع أخوية، لكن تلك الدوافع والحسابات الأخلاقية لم تلجم المتطاولين ولم توقف الأحقاد المجانية غير المبررة التي يحملونها. كما أن الحاجة إلى إقناع الآخرين بالواقعية السياسية ووضع حد للتطاول أصبحت ضرورة، لكي لا تتكرر الحملات العدائية ضد الخليج دون مبرر سوى اعتياد من يشنونها على تكرارها لأنهم لم يجدوا من يقف ضدهم. نحن بحاجة إلى الواقعية السياسية لأن انحدار أحاديث السياسة إلى هذا المستوى من الخرافات والقصص يجعل من السياسة مجرد مادة للإثارة. ولدينا كعرب ما يكفي من المزايدات والخرافات التي يجب التخلص منها لكي نغادر مأزق التخلف. إن أبسط رد على من أدمنوا الابتزاز والتطاول هو تنبيههم إلى أنهم يحولون السياسة إلى خيالات وإلى أوهام بقصد الإثارة. أما الدول، وضمنها دول الخليج، فعندما تريد أن تتخذ مواقف أو تقيم علاقات طبيعية مع أي طرف فإنها قادرة على أن تفعل ذلك ببساطة وفي العلن وليس في السر، وعلى قاعدة الحق الذي تمنحه لها سيادتها، بمعنى أنها ليست بحاجة إلى إخفاء القرارات الاستراتيجية. فهل يفهم مدمنو الكراهية هذه المسألة؟ وللتذكير فقد كنا ولا نزال في الخليج العربي الأكثر تفاعلا وإيجابية تجاه حقوق الشعب الفلسطيني ومعاناته. فقد ظلت الجهود الرسمية والشعبية ولا تزال تبذل عبر قنوات مختلفة الكثير لتقديم العون المادي المباشر، إلى جانب الدعم السياسي للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، رغم المنافسة الشرسة من قبل اللوبي الإسرائيلي ووقوفه ضد مصالح الدول الداعمة لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة. وفي سياق الرد على الاستفزازات التي تتجه بحقد غير مبرر إلى تخوين الخليج واتهام الخليجيين بالتخلي عن دعم الفلسطينيين، لا نملك إلا القول من جديد لمن يصطادون في الماء العكر إن الثوابت المتعلقة بالمنظور العام المساند للحق الفلسطيني تبقى العامل الأبرز في توجيه التعاطي السياسي الخارجي، سواء لدولة الإمارات أو لدول المنظومة الخليجية والعربية بصفة عامة. ومهما قامت وسائل التواصل الاجتماعي باختلاق أقوال وتأجيج مشاعر عدائية ضد الخليج من قبل من يدمنون المتاجرة بالقضية الفلسطينية، يمكن الرد على كل التخرصات والاستفزازات بكل سهولة. يجب أن نتحلى بواقعية سياسية تراعي سيادة الدول وحقها في النظر إلى الأمور من زوايا جديدة. كما يجب التحرك لوضع حد نهائي لحالة الهوس بتعليق المسؤولية تجاه القضية الفلسطينية على عاتق الآخرين. لأن ما يحدث على مدى العقود الماضية هو أن البعض يحاكم دول الخليج في كل الأوقات ويتهمها بالخيانة والتقصير، بل يطالبها بعد ذلك بمسؤوليات معنوية ومادية والتزامات أكثر بكثير مما يفترض أن يطالب به الفلسطينيون أنفسهم تجاه قضيتهم الوطنية. وبناء عليه يجب وضع حد للتطاول والمزايدات، لأن حجم الصراخ الذي يتعالى من بعض الأصوات يبدو موظفا بشكل ممنهج لأغراض أخرى لا علاقة لها بقضية فلسطين من الأساس، بل يتم اتخاذ القضية شماعة للتهجم على الخليج العربي والنظر باستمرار إلى ثرواته وكأنها مشاعة ولا صاحب لها، وكأن الخليج منطقة خالية من السكان وعليها أن تمنح كل أموالها للآخرين بصمت! الغريب أن حجم الدعم المالي الذي تقدمه دول الخليج عبر القنوات الدولية المعنية بإغاثة الفلسطينيين يسقط في النسيان على مدى العقود الماضية، ولا أحد يتذكر للخليجيين سوى الاستضافة الشكلية لبعض البطولات الرياضية الدولية التي تخضع المشاركة فيها لاشتراطات غير سياسية بالمطلق وتتخذها الاتحادات الرياضية الدولية، وتلك البطولات تنعقد بانتظام في مختلف دول العالم، ومن تحصيل الحاصل التركيز على تجمعات رياضية لا تحمل أي مدلول سياسي يتناقض مع الرؤية الجوهرية الثابتة تجاه القضية الفلسطينية. إن الإدمان على الديماغوجية ومحاولة وضع الجميع في سلة واحدة باسم القضية أصبحا من الماضي. وسبق أن اختبرنا جميعا سلبية هذه المعادلة الصفرية التي تقفز على الواقع وتسكن في دائرة التهويمات والأحلام. كما أن التشنج والابتعاد عن العقلانية في السياسة لم يمنحا قضية فلسطين سوى المزيد من الشعارات والترحيل المتكرر للقضية من خانة الواقع إلى البكائيات والمظلومية التي يظهر من سياق أحاديث من يغرقون فيها أنهم لا يريدون لها أن تنتهي بحل. إن الجدل والمناكفات والتغريدات الناقمة التي تبنى على افتراضات حاقدة أمر لا يقدم ولا يؤخر. كما أن اتجاه البعض، ومعظمهم من مجموعات الإسلام السياسي، إلى تفريغ العجز عبر توجيه الشتائم إلى الآخرين إنما يكشف عن أزمات نفسية لمن يطلقون تلك الشتائم. وبين فترة وأخرى يتداعى بشكل منظم عدد من هواة الشتائم والتغريدات البائسة ومقاطع الفيديو الانفعالية، وتجدهم يتسابقون على من يطلق أكبر قدر من الشتائم، إلى جانب التعبيرات التي يمكن تلخيص محتواها بشكل عام في إدمان البعض على رمي عبء القضية الفلسطينية على إقليم جغرافي عربي محدد، بينما يتم إعفاء الفلسطينيين ماضيا وحاضرا من أي عبء. ولو أردنا استعادة منطق المحاكمات التاريخية فإن المجموعات المتخصصة بإطلاق الشتائم ضد دول الخليج بحاجة إلى دروس تاريخية لوضعها في صورة ما حدث في آخر أيام الدولة العثمانية من تسليم مجاني لفلسطين على يد السلطنة العثمانية في آخر أيام الرجل المريض. غير أن هذه الحقيقة التاريخية لا تثير مشاعر مجموعات الشتم والإساءات ولا تمس تركيا الحديثة أو القديمة بأي سوء. وبدلا من ذلك تتجه تلك المجموعات وذبابها الإلكتروني للتركيز على استفزاز دول الخليج. وهذا النوع من المتاجرة بالقضية أصبح مملا وغير مقبول.
مشاركة :