الليبراليون العرب يحظون بموارد وامتيازات معنوية واجتماعية وسياسية، في كثير من المجتمعات العربية، بما يفوق أضعاف وزنهم السياسي وثقلهم الحقيقي في ميزان القبول والتأييد بل وحتى التعاطف معهم. لطالما سيطر الليبراليون العرب على منابر ومواقع ومؤسسات الثقافة في النظام العربي، حتى في بعض أكثر مجتمعات النظام العربي محافظة. هم يسيطرون على مراكز الفكر ومؤسسات الإعلام ومنابر التأثير على الرأي العام. ليس هذا، فحسب.. بل إن الليبراليين العرب يتمتعون، في بعض الأنظمة السياسية العربية، بتأثير مباشر على سياسات دولهم، مما يتيح لهم مشاركة فعالة في ممارسة السلطة. بالرغم من كل ذلك، نراهم كثيري الشكوى من عدم الاستجابة لمطالبهم السياسية من قبل النخب الحاكمة، وتهميشهم سياسيا والاستعانة بخصومهم المحافظين! بينما في أحيان كثيرة نجد الليبراليين العرب يتحايلون على القوانين المحلية التي يحكمها منطق الدولة، عن طريق نقل نشاطهم الثقافي والسياسي والتعبوي خارج حدود سيادة دولهم ليبثوا بالكلمة والصورة والفكرة معتقداتهم الليبرالية تجاه مجتمعاتهم المحافظة، يتم ذلك أحيانا، بمعاونة ومساندة رموز مجتمعية محسوبة على النخب السياسية في تلك المجتمعات! الليبراليون العرب، إذن: في كثير من المجتمعات العربية - في حقيقة الأمر - لم يعودوا أقلية تعاني من التهميش والتنكيل وعدم الاستجابة لمدخلاتهم «التنويرية والحداثية»، هم أيضا: مسنودون بتوجهات سياسات ومصالح قوى كبرى بحجة نشر القيم الليبرالية ومساندة منظومة الحريات في مجتمعاتهم التقليدية، بدعاوى الإصلاح وتوسيع نطاق المشاركة السياسية والشفافية ومحاربة الفساد وتمكين المرأة، تمهيدا لسيادة الديمقراطية في المجتمعات العربية! لم يكتف الليبراليون العرب بامتلاك وسائل إعلام ضخمة، ولا بالتطور النوعي الذي حققوه بالوجود داخل أروقة أنظمة لطالما اعتبروها تاريخيا أنها رجعية تتحرك خارج مسار حركة التاريخ التقدمية، فحسب.. بل نجدهم يتنكرون لأبسط منطلقات فكرهم الليبرالي. عكس ما تدعو إليه عقيدتهم الليبرالية، نجد الليبراليين العرب حرجي الصدر وضيقي الأفق تجاه معارضيهم الحقيقيين والمحتملين. فأبسط مبادئ الليبرالية تدعو للاستعداد الحقيقي بالتسامح لإبداء الرأي الآخر وسماعه وتوفير كافة الوسائل المتاحة لنشره وتداوله والنقاش بشأنه. بالعكس: نجد الليبراليين العرب لا يتسامحون مع الرأي الآخر، بل هم يتبنون فكرا شموليا إقصاء الرأي الآخر وملاحقته باتهامه بالرجعية وبالخيانة والعمالة للأجنبي، بل وحتى الإرهاب! الخطير أن الليبراليين العرب، في كثير من المجتمعات العربية، نجدهم من أكثر فئات المجتمع مقاومة للإصلاح ومحاربة للفساد وأكبر عائق للتحول الديمقراطي في مجتمعاتهم. هم يعرفون: لا أفكارهم ولا تاريخهم ولا شكل وجوهر نظامهم القيمي يتسق مع ثقافة مجتمعاتهم المحافظة... لذا نجدهم يخشون من أي صورة من صور السماح بالتعبير الحقيقي لميول مواطنيهم. من أهم ما أفرزته ما سمي بثورات الربيع العربي، هي هشاشة وتهافت الفكر الليبرالي للنخب الثقافية في بعض تلك المجتمعات. لقد ظهر عداء الليبراليين العرب سافرا لمقدمات ما بدا وكأنه تحولات ديمقراطية في تلك المجتمعات؛ فتنكروا لمبدأ مدنية الدولة... وساهموا، بصورة فاعلة لعودة عقارب الساعة لمجتمعاتهم عشرات السنين للوراء. لقد استخدموا نفوذهم في مجتمعاتهم، مستغلين حالة الفوضى التي حدثت بفعل تلك الثورات، للتنكيل بخصومهم، لدرجة الاقتراب من محظور محاربة المنظومة المحافظة لمجتمعاتهم، بمكوناتها الدينية والثقافية والاجتماعية. مشكلة الليبراليين العرب تكمن في أن معظمهم نسي إبداعات الثقافة وسجال صالوناتها والمشاركة في وطيس حوارات قضايا مجتمعاتهم الملحة، واختاروا التسكع في بلاط السلطة والهيام في دهاليزها لينتهوا بأن تتقاذفهم أمواج بحور السياسية الطاغية. ما يغيب عن الليبراليين العرب الدراية الواعية بثقافة المجتمع المدني، التي يعد نظام القيم الخاص بها أساس بناء وتقدم وازدهار المجتمعات الحديثة. ما زال الكثير من الليبراليين العرب ينظرون إلى المشكلة السياسية في مجتمعاتهم من منظور «الغلبة» التقليدي، لا من خلال منظور «العقد الاجتماعي» النقدي الحديث، الذي هو أهم إنجاز الفكر الليبرالي الحق. هنا يكمن الفرق الحقيقي بين الليبراليين العرب المكبلين بثقافة القبيلة، والليبراليين في المجتمعات المتقدمة المتمسكين بثقافة المجتمع المدني (الدولة القومية الحديثة). باختصار: الليبراليون العرب، لا هم مثقفون، ولا هم سياسيون. كما أنهم لم تعد لهم إبداعات ثقافية، لن تكون لهم إنجازات سياسية إصلاحية ورشيدة. لقد ابتعد ما يسمى بالليبراليين العرب عن إبهار الثقافة وإبداعاتها، ليقبعوا متوارين في ظل السلطة، وعلى هامش السياسة.
مشاركة :