«في الخليط المعهود في درجي الأدبي أحياناً أقع على نصوص كتبت منذ 10 أو 15 سنة أو أكثر، فالعديد منها تبدو لي أنها مكتوبة من قبل شخص غريب، وببساطة لا أتعرف على نفسي فيها. وكأن ثمة شخصاً آخر كتبها» (فيرناندو بيسوا) *** الحالة الشعرية تأتي مباغتة كموجة أو هبّة ريح غير متوقعة جاءت غدراً، فما يكون من الشاعر إلا أن يتجمل بفرح وهو يلاقيها في أوجها ليمسك بها أو ما يقدر عليه، وذلك حسب استعداده، وهذه الموجة كانت متوقعة عند الشاعر ولكنه لا يعرف متى وأين وكيف، فهو في ترقب حيث يقرأ ويسمع وينصت، ويتأمل ويفكر في أمور عديدة تشغل باله أنى سار أو رحل، وفي اليقظة والمنام والخيال والأحلام، وفي لحظة المجابهة مع المباغتة وجهاً لوجه يبدأ في الرسم بالكلمات لما تراكم في المخيلة من الصور حسب التنسيق الذي توالت فيه اللقطات والشرائح التي يمنتجها لتكوِّن شريطاً مكتملاً، وعندما يَعرض على ذاته ما رسم يرتاح ثم يودعه في مكان قريب منه للعودة إليه مرة ومرَّات، فتكون عملية الحك والتهذيب استعداداً لعرض المتج على الآخرين. هنا يقال إن المشاعر التي تتلقاها المواهب تكون جاهزة للهضم، ولكن عبر قنوات تالية تماثل الأواني المستطرقة لتكون عملية الترشيح التى تلت الهضم هي المحتوية على المعاني والأفكار المراد إيصالها للمتلقى، وتكون مرضية لصاحب العطاء الذي قدم نتاجه بقناعة ذاتية متأتية من الممارسة والتجارب والتطلعات الآتية من التحصيل والمطالعات في المماثل والمخالف من الفن الشعري بأشكاله التي لا تختلف عن بعضها في كافة أنحاء الأرض، فالمشاعر الإنسانية السامية والمستمدة من القيم والأخلاق واحدة لكون الإنسان في أي موطن هو إنسان يعى ويحس ويفرح ويتألم ويتفاعل مع الوجود القريب والبعيد، ولهذا تلقى الأعمال الشعرية ذات الصبغة الإنسانية الرواج والخلود بأشكالها العديدة ومضامينها التي تسمو بالإنسان ومفاهيمه. في الشعر العربي نماذج مكتملة العناصر التي يتطلبها الشعر ليعبر عن المكنون والواقع والمستشرف، فمن الجاهلي إلى اليوم الشعر هو الشعر يعبِّر عن خلجات الإنسان بصدق، إطاره الفن في التعامل مع الكلمات وتوظيفها، كما في الشعر العالمي، ومهما كانت من دعايات تتسلل إلى الواجهات الإعلامية ووسائل التواصل أن الشعر تراجع وتلاشى أمام الفنون الأخرى كالرواية مثلاً فهذا كلام مردود والصحافة ووسائل التواصل مليئة بالأشعار على مختلف المستويات والشعراء ينتجون ويقدمون مجموعاتهم الشعرية التي تجد صداها في الساحة الثقافية، ومن يشير إليها ولكن الكثرة في المنتج الثقافي العام يشكو جميعه من شبه انحسار عملية النقد والتقويم ليس في الداخل فقط بل في العالم العربي عامة، وهذا تأتى بفعل الاضطرابات السياسية التي تسبب فيها (الخريف العربي) فشغل المهتمون بأمور أخرى، ولكن ليس كلية فبين حين وآخر تظهر دراسة أو تقويم لعمل شعري جديد، والثقافة بمفهومها العام وتنوعاتها دائماً ما تكون عابرة الحدود، والشعر منها الذي ينطبق عليه قول اليزابيث درو «ليس الشاعر كائناً مفكراً فحسب أو كائناً عاطفياً، إنه يشعر بأفكاره، ويفكر بمشاعره» ولهذا تحتاجه الحياة دوماً.
مشاركة :