إنَّ اللهَ أَكْرَمَ هذهِ الشريعةَ الخاتمةَ، بكوكبةٍ من العلماءِ، أوتِيَتْ زَكاءً وذَكاءً، ووُهِبَتْ عِلْمًا وفَهْمًا، وتألَّقَتْ تدريسًا وتأليفًا، فتركَتْ لنا أثرًا من العِلْمِ باقيا، وأُنْمُوذَجًا من الاستِنْبَاطِ راقيا. وكان مِنْ أَجَلِّ ما قامَ بِهِ أولئك الكِبارُ أَنَّهمْ لمّا أَدْرَكُوا محدوديَّةَ نُصوصِ الشريعةِ في مقابلِ لا نِهَائِيَّةِ المسائلِ والحوادثِ التي تطرأُ على النَّاسِ، عَمِلوا على وَضْعِ القوانينِ والقواعدِ الاستنباطيَّةِ التي يُمكنُ مِنْ خِلالِها؛ تَوظيفُ نُصُوصِ الوَحْيَيْنِ المحدودةِ، لتستوعبَ مُسْتَجِدَّاتِ الناسِ غيرِ المحدودةِ، فكانتْ هذهِ العلومُ التي وَضَعوها، والقوانينُ التي أنشؤوها، أَشْبَهَ شيءٍ بعلمِ (اقتصادِ الشريعةِ). ذلك أنَّ علمَ الاقتصادِ في جوهرِهِ؛ هو العملُ على حُسْنِ تَوْظِيفِ (المواردِ) المحدودةِ، لتَكْفِيَ حاجاتِ البشريةِ غير المحدودةِ، وكذلك هذه القوانينُ الاستنباطيةُ متمثلةً في: الفقهِ وأصولِهِ ومقاصدِ الشريعةِ وما جرى مَجْراها، هذه القوانينُ الاستنباطيةُ تُفجِّرُ كوامنَ النصوصِ، لتَجِدَ فيها الحلولَ لكلِّ نازلةٍ، والأجوبةَ لكلِّ حادثةٍ، فتَتَحَقَّقُ بذلك صَلاحِيَةُ هذا الدينِ العظيمِ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ. ومن بينِ هذه الأصولِ الكليةِ النافعةِ، أصلُ (الموازناتِ)، القائمِ على ظهيرٍ من النقلِ، ومُشِيرٍ من العقلِ، وقَدْ رأَيْنا في كتابِ اللهِ كيفَ خَرَقَ الخَضِرُ عليهِ السلامُ السفينةَ لأنَّه وازنَ بين مجرَّدِ عَيْبِها، ومُصادَرَتِها مِنْ قِبَلِ الملكِ الظالمِ، فاختارَ الأخفَّ: (وأمَّا السفينةُ فكانتْ لمساكينَ يعملونَ في البحرِ فأردتُ أنْ أَعيبَها وكانَ وراءَهُمْ مَلِكٌ يأخُذُ كلَّ سفينةٍ غَصْبا). إنَّ من مُشكلاتِ البحثِ الشرعيِّ المعاصرِ، انكفاءَ كثيرٍ من الباحثينَ على (تأصيلِ) المسائلِ و(التنظيرِ) لها، دونَ جُهْدٍ حقيقيٍّ في تنزيلِها على واقعِ الناسِ، ونحنُ نعلمُ أنَّ الحياةَ تتجدَّدُ، والأحوالَ تتغيَّرُ، وما اقتضتْهُ الشريعةُ بالأمسِ، قد يكونُ غيرَ ما تقتضيهِ اليومَ، والإسلامُ دينُ المصلحةِ والمنفعةِ، ولا يَلِيقُ حَمْلُ الناسِ على ما فيه مضرَّتُهُم، أخذًا باستنباطٍ راعى فيه صاحبُهُ زمانَهُ ومكانَهُ. وليسَ ذلكَ -عياذًا باللهِ- من قَبِيْلِ تطْويعِ الشريعةِ لرغباتِ الناسِ، ولا تَخْضِيعِها لتقلُّباتِ الحوادثِ، ولكنَّهُ من بابِ حُسْنِ الفهمِ والتقديرِ، وإدراكِ الحالِ والمآلِ، وتحقيقِ مقصدِ الشريعةِ في إصلاحِ حياةِ الناسِ. فما بينَ ظاهريةٍ جديدةٍ جَمَدَتْ على ظاهر النصِّ، وفوضويةٍ اجترأَتْ على مخالفةِ النصِّ، ما بين هذين ثمةَ طريقٌ وسطٌ عَدْلٌ، يُقيم للنصِّ سلطانَهُ، ولا يَحْرِمُ العقلَ مَيْدَانَهُ، ولا شك أن الراسخينَ من العلماءِ والفقهاءِ والأصوليينَ، أقدرُ الناسِ على رسمِ ملامِحِهِ، وخَطِّ لوائِحِهِ، فاستعينوا أيها العلماء باللهِ، واعلموا أنَّ الواجبَ أكيدٌ، والعبءَ شديدٌ، ولكنَّ المقصِدَ حميدٌ، والمنْتَهى بإذن الله رشيدٌ. مدير جامعة أم القرى
مشاركة :