حين تتباهى المدنُ بطُرِقِها ومبانيها، وتتفاخرُ بمصايِفِها ومَشَاتِيْها، وتَزْدَهِي بشواطئها ومغانِيْها، فإنَّ مكةَ تُباهِي بالكعبةِ وطائفيها، وتَفْخَرُ بالمشاعرِ وزائريها ، وتَزْهُو بأنوارِ الوَحْيِ التي تُضيءُ كلَّ شِعْبٍ فيها. كُلُّ المدنِ لها قِصَّةُ حياةٍ بدأَتْ باجتهادِ بشرٍ، ومَكَّةُ وحدَها التي أمَرَ بإحيائها ربُّ البشر. إنَّها مكةُ (النبوَّةِ) ... وَضَعَ أساسَ بيتِها آدمُ عليه السلامُ، ثم رَفَعَ قواعدَهُ إبراهيمُ وابنُهُ إسماعيلُ عليهما السلامُ، ثم تَتَابَعَ الأنبياءُ ، فما مِنْ نبيٍّ بعدَ إبراهيمَ إلا وقدْ حجَّ البيتَ[البيهقيّ في السنن]، ثمَّ حَطَمَ الأصنامَ فيها خاتَمُ الأنبياءِ والمرسلينَ، أشرفُ خلْقِ الله أجمعينَ، سيدُنا محمدٌ صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . إنَّها مكةُ (الوَحْيِ) ... على (حرائِها) تنزَّل جبريلُ عليه السلامُ، يحملُ للبشريَّةِ نُورَ الهدايةِ الربّانيةِ، فأفاقتِ الدُّنيا على النَّبأِ العظيمِ: (اقرأْ باسمِ ربِّكَ الذي خَلَقَ، خَلَقَ الإنسانَ مِنْ عَلَق). إنّها مكةُ (البيتِ العتيقِ) ... يَفيءُ إليها المسلمونَ من كلِّ فجٍّ عميقٍ، ليتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبراهيمَ مُصَلّى، ولِيَطَّوَّفُوا بالبيتِ العتيقِ، ولِيَنَالُوا شَرَفَ الانتسابِ للطَّائفينَ والعاكفينَ والركَّعِ السُّجُودِ. إنَّها مكةُ (سيِّدِ المرسلينَ) ... على أرضِها ولِدَ، وفي أزقّتِها مشى، وفي غارِها تحنَّثَ، وعلى (صَفَاها) صَدَعَ بالحقِّ المبينِ، ونادى: «إنِّي نذيرٌ لكم بينَ يدَيْ عذابٍ شديدٍ». إنَّها مكةُ (الأَمْنِ) ... لا يُخْتَلَى خَلاها، ولا يُروَّعُ صَيْدُها، دعا لها إبراهيمُ عليهِ السلامُ: (ربِّ اجعلْ هذا بلداً آمناً)، فما لبثَ أنْ أجابَهُ الله: (ومَنْ دَخَلَهُ كان آمناً). إنَّها (مكةُ) وكفى ، جنة روح وشفاء قلب وسكينة جوارح .. مِيْمُها مهابةٌ، وكافُها كبرياءُ، والهاءُ منها هُدى، فحُقَّ لعَيْنِ المحبِّ أنْ تَبْكِيَ إذا ذَكَرَ مكةَ شوقاً وحنيناً .. فَسَالَتْ دموعُ العَيْنِ شوقاً لبلدةٍ ... بها حَرَمٌ أمْنٌ وفيها المشاعرُ وبَيْتٌ عَتِيْقٌ ليس يُؤْذَى حَمَامُهُ ... يَظَلُّ بِهِ أمْناً و فيهَ العصافرُ تَرِفُّ بِها من رحمةِ اللهِ رايةٌ ... ومِنْ بركاتِ الوَحْيِ فيها منائِرُ إنَّ مِنْ تكريمِ اللهِ لبيتِهِ الحرامِ أنْ سَخَّرَ الناسَ لخدمتِهِ، وأنْ قذَفَ في قلوبِهِمُ التشرُّفَ بذلكَ ، وهذه البلادُ المباركةُ قد أخذتْ من خدمةِ الحرمينِ بالحظِّ الأوفى فالتاريخُ يشهدُ بأنَّ أجلَّ التَّوْسِعاتِ، وأكبرَ الخَدَمَاتِ، وأعظمَ المشروعاتِ كانتْ في زمنِ الدولةِ السعوديّةِ المباركةِ .
مشاركة :