يعرف آرند ليبهارت، أحد أهم الدارسين لأنماط الحكم الديمقراطي، “الديمقراطية التوافقية” بأنها نمط حكم يجد شرعية اعتماده في المجتمعات التعددية ذات الانقسامات العميقة، مثل الدينية بالأساس أو الاجتماعية والاقتصادية. في تقدير ليبهارت فإن الديمقراطية التوافقية لا تمثل فقط حلا مثاليا للانقسامات، بل أيضا تجاوزا للمفهوم الكلاسيكي للنظام الديمقراطي الذي يقوم على حكم الأغلبية وفق معيار العددية، بأن يوفر طريقا ثالثا يسمح بالأخذ بتلك الأغلبية مع منح الفرصة للأقليات الأخرى بأن تكون شريكا في صنع السياسات والقرارات. بالنسبة للديمقراطيين الوفاقيين يمكن بهذه المقاربة فقط، الوصول إلى تمثيلية عادلة وأكثر استجابة لنظام سياسي يطمح إلى ضمان أوسع مشاركة ممكنة في إدارة شأن البلاد واتخاذ القرارات. تاريخيا بدأ الاهتمام أكثر بتعميم تجربة الديمقراطية التوافقية مع دولة هولندا ذات الانقسامات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، والسياسية الاقتصادية بين الليبراليين والاشتراكيين، إلى درجة أن كل شق انفرد بتأسيس أحزابه ومنظماته وأنديته الثقافية والرياضية ومؤسساته الإعلامية ونقاباته. ونجاح المثال الهولندي دفع في مرحلة أولى إلى تعميمه مع شيء من التطويع في دول أوروبية أخرى مثل بلجيكا والنمسا وسويسرا، قبل أن يلقى صداه في مناطق أخرى من العالم بعد انهيار المعسكر الشرقي. لكن على عكس المجتمعات الغربية التي تسلحت بمبدأ الرغبة في العيش المشترك قبل الوفاق السياسي، فإن في العالم العربي وفي دول مثل العراق ولبنان برز قصور واضح في الأخذ بالديمقراطية التوافقية، بل إن نتائجها جاءت عكسية وكارثية. بعد عقود من تجربة التوافق المفخخ اكتشف اللبنانيون أن الوبال الذي نال البلاد من نافذة الوفاق كان أعظم بكثير من اعتماد نظام ديمقراطي متعثر لكنه مجرد عن أي حساسيات طائفية. وفي المقابل فإن الطريق لا يزال طويلا أمام العراقيين لإعلاء القيم الوطنية على حساب الانتماء المذهبي والطائفي العابر للحدود. وإذا كان هناك ما يبرر من اللجوء إلى التوافق ومنحه مرتبة دستورية في هذه الأمثلة، فإن السياسة الوفاقية ذاتها التي يجري اعتمادها في تونس تسير على طرفي نقيض وتبدو خارج التصنيف. لا يعاني البلد من انقسامات طائفية أو عرقية وليست هناك خلافات دينية، وعدا المخاطر السياسية التي لاحت في بداية الانتقال الديمقراطي، فإن الاستمرار في اعتماد التوافق لا يجد نظريا ما يبرره، خصوصا إذا تحول هذا الخيار إلى سلطة موازية للمؤسسات الدستورية والأصلية. وفي نهاية المطاف فإن ما كان يفترض أن يضمنه التوافق من تفادي الانقسام والتشتت في المثال التونسي، تحول إلى عامل رئيسي في فرقعة الوحدة الوطنية وإفقادها حزاما سياسيا واجتماعيا. والخلاصة من تلك التجربة أن الإمعان في استخدام تقنية التوافق في غير موضعها أو سياقها، أمر لا يختلف من بعض جوانبه عن فرض “أحكام عرفية”، كون الاثنين وعلى اختلاف شرعيتيهما، فهما يشتركان في القفز على الدستور والسير الطبيعي للمؤسسات المنبثقة عنه. قد يجادل مناصرو الوفاقية ومنهم ليبهارت نفسه، بأن مبدأ التمثيل النسبي في ظل حكومات مكونة من ائتلافات سيتيح قدرة أكبر على صنع سياسات تتسم بالثبات والوسطية، عكس السياسات التي تفرضها حكومة الأغلبية التي تأتي في الغالب متضاربة مع رؤية مجموعات أخرى معارضة. لكن يتغافل هذا الشرح عن أن جوهر الديمقراطية، لا سيما في الدول الموحدة عرقيا ودينيا، يقوم على التعددية السياسية والاختلاف في الرؤى والبرامج، وعلى مبدأ التداول على الحكم. وطالما قام التوافق على المحاصصة الحزبية، أو الطائفية والعرقية في نماذج أخرى، فإنه بالنتيجة ليس مضمونا أن تتوفر الحكومات الوفاقية على عنصري الكفاءة والفعالية كما لا تنطوي برامج هذه الحكومات في الغالب على سياسات اقتصادية واضحة ودقيقة، ويفسر هذا تماما حالة الارتباك المستمرة والاضطرابات الاجتماعية التي يشهدها المثال التونسي. ويمكن الاستنتاج بشكل واضح أن التوافق المغشوش أبقى الديمقراطية الناشئة في تونس في وضع هش وفاقدة لعامل الاستقرار كما جعل عمل المؤسسات رهينة له، ولأن الأزمة تجر الأخرى فإن وقع ذلك يكون آليا على الاقتصاد والوضع الاجتماعي والاستثمار والنمو والتنمية والتشغيل. وإذا كانت فكرة الوفاق تقوم من حيث المبدأ على الإنقاذ وتفادي الأزمات والحروب الأهلية، فإن ترسيخها وإطالة أمدها في غير سياقها الظرفي، يهددان بنسف البناء الديمقراطي برمته. فالهدف ليس أن نحكم معا بقدر ما يتعلق الأمر بكيف نخطط معا لإدارة الحكم والاستجابة لمتطلباته في كنف الدستور والمؤسسات.
مشاركة :