«الانتماء».. من ضيق القبلية إلى رحابة الإنسانية

  • 5/31/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

هل أسهم الإرث الأدبي العربي في نمو الانتماء إلى القبيلة عبر العصور؟ سؤال ربما يتبادر أحياناً إلى الأذهان؛ لما يحمله ذلك الإرث العظيم من شواهد كثيرة، بل إنها لا يمكن إحصاؤها في مجلد واحد، فهي تحتاج إلى سلسلة من المجلدات، التي تروي لنا المفاخرة والنعت والهجاء والحماس والإقصاء والرفع والخفض من شأن قبائل أخرى، والتنقيص في اللون والقبيلة حتى صنعت تلك الضغوط المجتمعية أبطالاً في تاريخ الأدب العربي. وستصاب بالذهول عند قراءتك التاريخ البشري من الناحية العلمية «الإنثروبولوجية»، بل ستتلاشى لديك كل التصورات والانتماءات العرقية والقبلية عندما تدرك حقيقة التاريخ، ومن ذلك ما أكدته آخر المعطيات وفق حقيقة تؤكدها الخريطة الجينية البشرية، وهي أول خريطة للتاريخ البشري في العالم، وقد نشرت على موقع «ناشيونال جيوجرافيك» ضمن مشروع كبير أطلق عليه اسم «جينو جرافيك بروجيكت»، الذي بدأ عام 2005 لدراسة وفحص أصول البشر وملامحهم». ولو افترضنا قياساً لذلك الامتداد التاريخي منذ الإنسان البدائي، وتخيلنا التاريخ وكأنه مساحة تقدر بآلاف الكيلو مترات، فإنك ستجد بعض المتطرفين في الانتماء القبلي ينقبون عن تاريخهم وأمجاد آبائهم وأجدادهم في مساحة ضئيلة لا تتجاوز ألفي سم2، بينما بقية المساحة من تاريخ البشرية تمتد لآلاف الكيلو مترات، وهي مساحة لم تُعرَف بعد إلا من خلال أقدم جمجمة بشرية تم اكتشافها، وهي تعود إلى أكثر من ثلاثة ملايين سنة، فهو يتجاهل تاريخ البشرية الضخم، الذي لم يُعرف جيداً منذ بدء الخلق، وكيف نشأ وتكاثر وانتشر منذ آدم عليه السلام، ولا يعلم كم الامتداد بينه وبين قبيلته وبين قبيلته وآدم عليه السلام، ولكنه يبتكر الأسماء التي لا تتفق وعلم الإنسان الحديث، ويصل بنسبه إلى آدم، فيصبح في حيرة من أمره إن كان جده رقم مئة هو قابيل أم هابيل! والحقيقة أن الأدب العربي مليء بشواهد الافتخار بالآباء والأجداد، المحشورين في تلك المساحة الضيقة، فقول عمرو بن كلثوم الذي توفي عام 39 ق.هـ في معلقته الشهيرة التي كان مطلعها: ألا هبي بصحنك فاصبحينا .. ولا تبقي خمور الأندرينا إلى أن قال: ملأنا البر حتى ضاق عنا .. وظهر البحر نملأه سفينا إذا بلغ الفطام لنا صبيٌ .. تخر له الجبابر ساجدينا والأدب العربي مليء بالشواهد التي صنعت أبطالاً في المعارك والشعر كعنترة بن شداد الذي كان أسود البشرة فهو القائل: تعيرني العدا بسواد لوني .. وبيض خصائلي تمحو السوادا ويقول أيضاً: سوادي بياضٌ حين تبدو شمائلي .. وفعلي على الأنساب يزهو ويفخر وقال مفاخراً بقبيلته رغم انتقاصهم لونه: أحب بني عبسٍ ولو هدروا دمي .. محبة عبد صادق القول صابر وقال معاتباً قومه: ينادونني في السلم يا بن زبيبة .. وعند قراع الخيل يا بن الأطايب! والشواهد كثيرة لا حصر لها بين مَن يهجو سلالة وبين مفاخر بنسبه وقبيلته، ولا أدل على ذلك من هجاء أبي الطيب المتنبي كافورَ الأخشيدي، وكذلك حينما رفع الشاعر الحطيئة من شأن قبيلة بعد أن قلل من مكانتها المجتمع، وجعل منها قبيلة وضيعة كـ بني «أنف الناقة»، فأعاد لها سمعتها على ساحة المفاخرة والاعتزاز القبلي حين قال: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم .. ومن يسويّ بأنف الناقة الذنبا وعلى النقيض من ذلك قول جرير في كبرياء بني نُمير حين قلل من شأنهم ببيتين شهيرين: فغض الطرف إنك من نمير.. فلا كعباً بلغت ولا كلابا فعندما يدرك الإنسان المعاصر حقيقة التاريخ البشري، وينظر إلى كينونة الخلق ستصغر تلك البرمجة العصبية المكتسبة من التاريخ، الذي لا يتجاوز مساحة ضيقة داخل رقعة ضخمة تسمى العالم. ولذلك كان الإعجاز جلياً في قوله تعالى: «الحمد لله رب العالمين»، فهو رب كل مخلوقات العالم وسلالاته، وليس رب الغرب أو رب العرب فحسب، وليس برب المسلمين فقط، فهو سبحانه رب المسلم وغير المسلم. وعندما تزور المسجد الحرام وترى الحشود المكتظة بين الركوع والسجود، والطائفين حول البيت الحرام الذين قدموا من مختلف السلالات حول العالم بلباس موحد، وتقرأ الوجوه القادمة من أصقاع الدنيا، ستدرك ذلك التمازج والاندماج، وأن الإسلام هو الوحيد الذي يفك القيود العرقية والقبلية، ويقول لك ذلك الدين العظيم إنه لا فرق بينهم جميعاً إلا بالتقوى، وأن الهدف في خلقهم من ذكر وأنثى، وجعلهم شعوباً وقبائل هو من أجل التعارف فقط وليس التفضيل، وبيَّن سبحانه وتعالى أن التفضيل لا يكون إلا بالتقوى. في الآية 13 من سورة الحجرات قال تعالى: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». فأي مناقب وأي مفاخرة بعد ذلك؟! كما وردت في الأثر أبيات نسبت للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه، منها: الناس من جهـــة الآبــاء أكفــاء ... أبـوهـــم آدمٌ والأم حـــــواء نفسٌ كنفـــسٍ وأرواحٌ مشاكلـــةٌ ... وأعظـــمٌ خُلِّقتْ فيها وأعضـــاء وإنمــــا أمهــات الناس أوعيــةٌ ...مستودعـــــاتٌ وللأحساب آبــاء فإن يكــن لهم من أصلهم شــرفٌ ... يفاخــــرون به فالطين والمــاء. الأدب العربي ساهم في نمو الانتماء إلى القبيلة

مشاركة :