في لحظة ما يستطيع المرء أن يرى سلطة الثقافة السائدة عليه، يستطيع أن يرى قوة الأيديولوجيا على تفكيره وآرائه وتصرفاته وربما حتى على علاقاته واختياراته في الحياة. وحين يرى ذلك ويقرر أن يتمرد على هذه الأيديولوجيا الضيقة التي منعته من الانطلاق والتحرر يتجه نحو رحابة الفكر الإنساني بكل اتساعه، لقد كان مقيدا في السابق ومكبلا، ولا يرى أبعد من أنفه، ويتساءل كيف لم يبصر هذا الضيق الفكري الذي كان يرزح تحت أسره. سيقرر أنه بدلا من تلقي أفكاره وقيمه ومبادئه من جهة ما عليه أن يحكّم عقله، فنحن بشر نستمد قوتنا من عقلنا، لقد استطاعت البشرية أن تصل إلى ما وصلت إليه حين تحررت من قيود السلطات السابقة، أليس التنوير هو التحرر من كل سلطة على العقل، والاعتماد على العقل والعقل وحده في الوصول إلى المعرفة. إننا قادرون على التطور والالتزام بالقيم متى ما كنا صادقين مع ذواتنا، ومتى ما كان بحثنا عقليا معرفيا جادا بعيدا عن أي سلطة تقع على عاتقنا، نعم يجب أن نتحرر.. هكذا يحدث المرء نفسه حين يقرر أن يكسر قيود الأيديولوجيا والأفكار الشمولية. هناك على الطرف الآخر الغرب الذي يدعو إلى العقلانية، والذي كسر قيود السلطات الدينية والاجتماعية وترك الطريق معبدا للعقل البشري أن يسير، والذي يطرح نفسه كممثل عن الإنسانية الرحبة، إنه يزعم ذلك على الأقل. حسنا، لنتناول قضية حادثة لنرى مدى صدق هذه الدعوى، أعني رحابة الفكر الإنساني وقدرة العقل البشري أن يصل إلى المعرفة دون قيود. قبل أقل من شهر أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية حكما يقضي بمنح الحق للمثليين جنسيا بالزواج في كافة الولايات المتحدة، وصف الرئيس الأمريكي هذا القرار بأنه: «انتصار لأمريكا.. وانتصار للحب». إن الأمر يبدو وكأنه انتصار للحرية الإنسانية والعقل البشري على ضيق التخلف الفكري الذي ساد لقرون طويلة. لنلق نظرة على ما حدث في العصر الحديث، لقد كان الطب النفسي يعدّ الميول الجنسية المثلية مرضا، لكن ذلك تطور قبل عدة عقود في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسي DSM الذي تصدره الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين إلى وصفه بالاضطراب النفسي، حتى تطور إلى ميل جنسي ترفضه الأنا، حتى اختفى تماما من الدليل. وهناك جدل حول حدوث هذا التطور حيث انه خضع للصراعات الاجتماعية والسياسية أكثر من خضوعه للبحث العلمي المجرد. حدث هذا في العقود الأربعة الأخيرة، لكن قبلها وفي نهاية القرن التاسع عشر حدثت تغييرات هامة جديرة بالتأمل، فبالرغم من أن اللواط وُجد في التاريخ البشري إلا أنه لم يعط هوية إلا في نهاية القرن التاسع عشر، لم يعد هؤلاء لهم ميول جنسي لكنهم أصبحوا (مثليين)، أصبحت المثلية هوية، وبالتالي يتم تمييز أصحابها ويُجعلون بمقابل هويات أخرى. إضافة إلى أن الطب النفسي ازداد نفوذه وسلطته بل أصبح الأطباء النفسيون هم القادرون على توصيف الممارسة الجنسية الصحية. هذه التحولات التاريخية -والتي هي تحولات في السلطة في واقع الأمر-، في توصيف الميل الجنسي المثلي، إضافة إلى سلطة الطب النفسي في توصيف الممارسة الجنسية الصحيحة بات سلطة ناعمة على العقل البشري ليس باستطاعة ذلك الذي قرر التخلص من الأيديولوجيا الضيقة أن يلاحظها، إنه لا يرى أبدا هذا الكم من السلطات وكل تلك الصراعات الاجتماعية والسياسية التي تقف خلف الموضوع، إنه يقرر وبكل بساطة بعد تراكم طويل من السلطة الناعمة بأن العقل البشري الحر يسير بهذا الاتجاه، تماما كما قال أوباما: «وانتصر الحب». أضف إلى ذلك اتجاه السينما الناعم والمكثّف في تطبيع هذا الميل الجنسي المثلي، إن كمّ الأفلام السينمائية الذي يصور المثليين بأنهم الأطهر والأنقى والأكثر صدقا مع الذات، وأنهم الطبيعيون، وأنهم الذين عانوا الأمرين عبر التاريخ، يشكل سلطة ناعمة من الصعب تمييز أثرها، ففي مسلسل House of Cards وفي موسمه الأخير بالذات يسلط الضور بشكل أوضح على المثلية، فيظهر المناضل الحقوقي الصادق والمنسجم مع ذاته والبعيد عن المصالح الشخصية مثليا، ويظهر الكاتب الروائي الصادق كذلك، وأيضا يظهر الرئيس الأمريكي نفسه هكذا، وتتجه غيرة زوجته إلى عشيقه الروائي بدلا من أن تتجه غيرتها إلى امرأة مثلها. ثمة أعمال سينمائية أخرى كثيرة تستحق أن يكتب عن التوجه المثلي الواضح فيها مثل: The Imitation Game و Black Swan و The Perks of Being a Wallflower إنه بعد كل هذه السلطات يأتي ليقرر أنه خرج من ضيق الأيديولوجيا إلى الإنسانية، لقد خرج فعلا لكنه دخل في صندوق الإنسانية، إنه صندوق شفاف لا يمكن له أن يرى حواجزه، وهو لا يرتطم بها لأنه لا يرغب بذلك، لقد هيأوه منذ زمن حتى يختار أن يدور ضمن أطر هذا الصندوق، ويظن نفسه سابحا في الفضاء. أكاديمي سعودي
مشاركة :