أن تكون فدوى سليمان ممثلة علويّة الأصل، وتتسلل إلى حمص، مدينة الغالبية السنّية المحاصَرة، فهذا يبرز طابع الثورة المدنيّ إزاء كلّ من حدود العائلة (العلويّة)، بمعناها الأقلويّ والذكوريّ، وشروط المهنة (المهينة)، إضافة الى وعي الغالبية الطائفيّ. عائلة الريف ومنازل المدينة عُرفت فدوى سليمان ممثّلة مسرحيّة وتلفزيونية، (شاركت في عمل سينمائي واحد «نسيم الروح»). عدا ذلك، عملت في دبلجة مسلسلات مخصصة للأطفال كـ «سندريللا» و«همتارو». ولدت في حلب عام 1970، وانتقلت إلى دمشق لتنتسب إلى المعهد العالي للفنون المسرحية، ثم عملت لاحقاً بعد تخرجها في أكثر من عشرين عملاً مسرحيّاً وتلفزيونيّاً. انحدارها من أقلية سكانية (علوية) يمنحها صفة عائلية ريفية إن صحّ التعبير. ستحمل فدوى ضمناً ما يَسِمُها بأن تكون سليلة تربية وأخلاق ريفية (أقلوية) ومدنية (أغلبوية) في وقت واحد، الأمر الذي لا يتوافر لدى كثيرين من سكان المدن الكبيرة (الأصلاء)، فهي ابنة تنحدر من أقلية سكانية، سبق أن عانت التهميش والفقر على مدى عقود، ثم تحول لاحقاً من ارتبط من أبنائها بوظائف النظام القمعية (1970- 2010) إلى فئة غنيّة ومتسلطة وقاهرة لعموم السوريين، بمن فيهم العلويون أنفسهم. غير أن طبيعة عملها ستقرّبها من مسائل أكثر صلة بالجوهر الإنساني، فالعمل الفني سيجعلها صورة عن رغبتها الذاتية الفردية، قبل أن تكون ابنة عائلة علوية وحسب، ثمّ إن النظرة النمطية المغلقة تبقى قاصرة في حكمها على قيم العائلة العلوية عموماً، وبالتالي لن تكون نافعة أبداً في الكشف عن أية فعالية من فعاليات النساء العلويات، سواء في المناطق ذات الكثافة العلوية، أو في قلب المدن الكبيرة كدمشق. الشارع السنّي والمرأة العلويّة توصف البيئة السنّية التقليدية عادة بأنها بيئة رجالٍ ذوي سطوة يقدّمون قوة العمل ويتولون مبكراً مسؤولية تأسيس العائلة وحماية شرفها وكرامتها، فيما تبقى النساء (المحجبات) غالباً، إمّا زوجات (محُصّنات) أو شقيقات (ضعيفات)، أو بنات بحاجة دائماً إلى حماية (الوليّ) الرجل – الأب، الزوج، أو الأخ. لن يغيّر حافظ الأسد (العلمانيّ) والرئيس (الجمهوريّ) الحامي للدستور السوريّ طيلة 30 عاماً من حكمه الكارثيّ، ولا ابنه (2000 – 2010) بشار ولا عقيلته البريطانية الجنسية والثقافة، شيئاً من هذا الوضع السيئ؛ فما زال قانون العقوبات السوريّ جباناً، والمادة 548 لعام 2011، بنصهّا الحرفيّ تقول: «يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو إخوته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما ...»، وهو نصّ يحمي الرجال القتلة علناً وصراحة حينما يقتلون (نساءَهم) الضعيفات غسلاً للعار، وما جرائم ما اصطلح على تسميتها بجرائم (الشرف) سوى تثبيت لوضع إجراميّ يغطي القتل بدافع شريف. للعرف الاجتماعيّ والقبليّ صلة ببقاء هذه الحال، غير أنه في دولة مثل سورية، حيث يمكن الرئيس أن يقلب الدستور رأساً على عقب، يبدو الحفاظ على هذه الجريمة جزءاً من الحفاظ على نمط الحكم الاستبداديّ، وتركيز السلطة بيد الرجال، بما يعنيه ذلك من قتل مسبَق لأية مبادرة يمكن أن تقودها امرأة خارج حدود العائلة! إعلامياً لا ميدانياً، ظهرت أولى صور فدوى سليمان، وهي تهتف جنباً إلى جنب مع المنشد والمقاتل في ما بعد عبدالباسط الساروت، حارس مرمى نادي الكرامة الحمصي الشهير. نحن والحال هذه، إزاء امرأة علوية تخترق مدينة حمص ذات الغالبية السنيّة المحاصَرة، وتغنّي بصحبة رجلٍ كتفاً إلى كتفٍ في ساحة عامة. شاركت فدوى في هذه المرحلة الممتدة من الخامس عشر من آذار (مارس) وحتى بواكير تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2011، في غالبية التظاهرات التي انطلقت في العاصمة السورية، قبل أن تتجه إلى حمص، حيث كانت من المنظمين لعدد منها في أحياء دمشق، بدءاً من تظاهرات واعتصامات ساحة عرنوس النسائية، إلى أحياء مدحت باشا والحريقة. كما شاركت فدوى سليمان في كل العزاءات التي أقيمت لشهداء الثورة في أحياء البرزة والقابون وزملكا ودوما، حيث أصرت ورفاقها على تأدية واجب العزاء ضد إرادة الأجهزة الأمنية التي كانت تحاول المستحيل لمنع السوريين من الالتقاء ببعضهم بعضاً، بخاصة إن كانوا من منابت طائفية متعددة. فوجود فدوى (المرأة - العلوية - الممثلة) هنا، وسط خيم العزاء المتنقلة من حي إلى آخر في دمشق وريفها ذي الغالبية السنّية، والتي غالباً ما كانت حكراً على الرجال، لم يعد رهناً بشخصيتها الفردية كونها امرأة مثلها مثل سواها، بقدر ما غدا قوة لها رمزيتها الاجتماعية والسياسية العابرة للطوائف من جهة ولواقع المرأة – الرجل من ناحية ثانية، إنْ لجهة كسر الصورة النمطية عن سيادة الثاني على الأولى، أو كسر الصورة التي روّجها النظام عن طائفية الثورة وتشدد جمهورها السنّي المتدين، أو كسر صورة الممثل المتعالي (وهو المدلّل والمخصيِّ من جانب شركات مالية يملكها رجال النظام الأغنياء) عن وقائع حياة الفئة الأكبر من السوريين. تشهد تجربة فدوى سليمان على تحوّل بالغ الدلالة في صميم حال الاجتماع السوري عبر تحررها الفرديّ. وهي إذ نجحت في إبراز هذه الصورة الخاصة إنما رفعت معها من سويّة الحسّ الاجتماعي العام لدى عموم النساء السوريات، رافضة أي تطييف ديني لهنّ أو أي تأجيل لاستحقاقهنّ المشاركة على قدم المساواة مع الرجال. بذلك إنما خدمت فدوى سليمان أيما خدمة العلويين والسنّة في الوقت ذاته. التّحدي وردّ فعل العائلة لن تمرّ 24 ساعة على بثّ مقاطعَ مباشرة لظهور فدوى سليمان وعبدالباسط الساروت معاً، حتى يظهر شقيقها على تلفزيون النظام السوريّ، ويعلن تبرؤ العائلة من ابنتها، مردفاً التبرؤ باتهامَها بتلقي المال للوقوف إلى جانب الثوار. سيكون لمعنى التبرؤ العائلي الضمني هنا ما يشي بجواز قتل فدوى أو اعتقالها طالما أنها كـ (امرأة) أصبحت بلا وليّ ولا حماية. لم تعد تمثل الشرف لأحد الآن! الإهانة والاعتقال والقتل، هي الأفعال التي يجيدها النظام السوري إزاء أي تمرّد على (حكم العائلة). تلك الرسالة (التبرؤ والاتهام) لم تكن موجهة إلى فدوى فقط، بل إلى أية علوية بالأخصّ أو علوي بالأعمّ، تتجرأ أو يتجرأ على تجاوز حدود العائلة التي لا تقبل من ابنتها سلوكاً كهذا (غير مشرّف وغير عائليّ). وليس خافياً هنا، ان درجة مماهاة النظام لنفسه (عائلة الأسد) مع كلّ عائلة علوية سوريّة، كما لو كان الخروج على الأخيرة هو عين الخروج على الأولى، هي ذاتها التطبيق الفعلي لمقولة «الأب القائد»، تلك الضريبة الثقيلة والكاتمة للأنفاس والتي كانت أحد ألقاب حافظ الأسد، والتي أيضاً مسخت العائلات السورية كلّها، ودفعتها الى أن تختبئ وتخرس في حال وجود الأب – الرجل - القائد. هذه المماهاة الخطيرة جداً والتي تلغي الأسرة السورية عموماً والعلوية خصوصاً، هي بحدّ ذاتها ما شكّل ظهورُ فدوى سليمان تحدياً لها من قلبها.
مشاركة :