آيات في الآيات (14): «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورا»

  • 5/31/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كالعادة نستدعي شهادة أهل العلم من خارج ملة الإسلام، كافتتاحية للمقال وهذه المرة من ايطاليا، حيث المؤرخ برنس جيواني بوركيز الذي يقول كلام مؤلم ولكنه حق: «لقد ابتعدت مصاديق السعادة والسيادة عن المسلمين بسبب تهاونهم في اتباع القرآن والعمل بقوانينه وأحكامه وذلك بعدما كانت حياتهم موسومة بالعزة والفخر والعظمة وقد استغل الأعداء هذا الأمر فشنوا الهجوم عليهم، نعم إن هذا الظلام الذي يُخيم على حياة المسلمين إنما من عدم مراعاتهم لقوانين القرآن لا لنقص فيه أو في الإسلام عمومًا، فالحق أنه لا يمكن أخذ أي نقص على الدين الإسلامي الطاهر»، أعذر من يقول الاقتباس طويل، ولكن أتيت به لأقف على كلمة منه وهي «الظلام الذي يخيم على حياة المسلمين» التي أوردها هذا المؤرخ المُنصف، وأجعل من هذا المقال النقيض تمامًا من الظلام، وذلك من خلال وقفة جدًا متواضعة للنور الكامن في هذا القرآن. الذي استرعى انتباهي في الآية السابقة هي كلمة أتى وتشعب التفكير بين أتى وجاء وما الفرق بينهما وما يترتب على هذا الفرق بينهما، فكلمة أتى وردت 549 مرة في الكتاب الحكيم بينما وردت كلمة جاء 278 مرة وهما ضمن 828 آية في الكتاب المُبين، عدد كبير جدًا من الآيات نتعامل معه من دون الوقوف على الفرق بينهما، وهذا أمر نخجل حتى من ذكره. أتى وجاء كلاهما يعبّر عن حالة بين متكلم ومخاطب، ويختلف المتكلم والمخاطب بحسب الموضوع فمرة يكون المتكلم الله والمخاطب محمد عليه السلام كما في سورة الحجر 87 «ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم» وتارة يكون المخاطب هم الناس كما في أول آية من سورة النحل «أتى أمر الله فلا تستعجلوه» وتارة أخرى يكون المتكلم الهدهد والمخاطب سيدنا سليمان كما في قوله تعالى في سورة النمل 22 «فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين» وهكذا تتنوع أنواع المتكلمين والمخاطبين تبعًا للمناسبة والموضوع، ولكل من الفعل أتى والفعل جاء مجال استعمال خاص به، فعند قوله سبحانه وتعالى «إذا جاء نصر الله والفتح» المتكلم هنا هو الله سبحانه والمخاطب هو رسوله عليه السلام والذي جاء هو «النصر» والنصر من دائرة ومجال علم الله وليس من مجال محمد عليه السلام، فإذًا جاء تكون من خارج منطقة ودائرة ومعارف ومعلومات المخاطب ولننظر إلى «وجئتك من سبأ بنبأ يقين» النبأ الذي جاء به الهدهد من خارج دائرة معارف سيدنا سليمان لذلك قال نبأ ولم يقل خبرا؛ لأنه كان غيبا بالنسبة لسيدنا سليمان ثم تحول النبأ إلى خبر عندما علِم به سليمان عن طريق الهدهد. الفعل «أتى» لا يصدر إلا من دائرة معارف وعلم وممتلكات المتكلم ولننظر في قوله تعالى «..آتيناك سبعًا من المثاني..» هذه من صميم عِلم الله وعليه مثلاً كل آيات الزكاة لا يكون معها إلا الفعل «أتى» لأن الذي يخرج الزكاة يخرجها مما يملك: «الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة» لا يناسبها إلا الفعل «أتى»، وقد تجتمع أتى مع جاء في موضوع واحد ولا تختل القاعدة السابقة كقوله تعالى في الآيات 61-64 من سورة الحجر: «فلما جاء آل لوط المرسلون * قال إنكم قوم منكرون * قالوا بل جئناك بما كانوا يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون». مجيء المرسلين كان من خارج علم لوط وآله وأتوا بالحق وهو هنا العذاب من لدن العلم الإلهي ودائرة علمه التي تُحيط بكل شيء، وورد الفعلان في نفس الآية من سورة مريم 43 «يا أبت إني جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا» سيدنا إبراهيم هو المتكلم وأبوه هو المخاطب في هذه الآية الكريمة فعلم إبراهيم جاءه من الله وحيًا فهو من خارج معارف إبراهيم بالكامل ولم يعلم منه شيئا قبل نزول الوحي وتبليغه العلم لإبراهيم. أخيرًا نتوقف عند المثال الأخير لجلاء الفكرة بشكل نأمل أن يكون كاملاً من هذه الزاوية فقط، فالمثل هنا من سيدنا موسى عليه السلام في سورة الشعراء «فأتيا فرعون فقولا إنا رسولا رب العالمين». لأن فرعون معروف لسيدنا موسى وهارون استعمل القرآن «فأتيا» أي انه من الدائرة المعرفية والإدراكية لرسولا الله وليس خافيًا عليهم فرعون والمكانة التي يحتلها وضمن نفس السياق والحوار الموسوي الفرعوني «قال أولو جئتك بشيء مبين» الذي جاء به موسى لفرعون هي آيات ومعجزات زوّده الله بها وهي خارج نطاق تفكير فرعون ومعارفه لذا استلزم أن يقول «جئتك» وليس «أتيتك» لأنه لو قال أتيتك لكان وجوبًا أن يكون فرعون عالمًا بما سيأتي به موسى، أو يقع ضمن معارف فرعون ومعلوماته، تُرى هل غير الخشوع يصح أن يكون في هذا المقام بحضرة هذه الدقة المتناهية، نخشع ونصدع تسليمًا وتصديقًا بقدرة ربنا الذي لا طاقة لنا بالإحاطة بها كما يليق بها ولكن نُسدد ونقارب ضمن الطاقة البشرية القاصرة حتمًا. ألم يكن صادقًا ودقيقًا المؤرخ الإيطالي عندما شخّص سبب الظلمة التي تُحيك بنا كمسلمين ونحن نمتلك ذخيرة لا تفنى ولا تنقضي للماضي والحاضر والمستقبل، وهذه دعوة في شهر البركة والصبر أن نتعامل مع القرآن بمنظور يليق بجلاله ودقته وبلاغته وعلميته. بقلم: عاطف الطبيحي

مشاركة :