آيات في الآيات (8): «فهب لي من لدنك وليا»

  • 5/25/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

دعوة سيدنا زكريا التي لا تخفى على أحد من المسلمين، يسأل الله فيها الولد بعد أن شرح حاجته لذلك، فأجابه ربه وبشره بقبول دعوته، وهذا معروف في سورة مريم، لكن جذبتني بقوة كلمة «هب» ومنها تفرعت مسالك التفكير التي أدت إلى البحث في هذه الكلمة والتميز بينها وبين بعض الكلمات الشقيقات لها والمتباينات معها، فكان لزاما تصنيفها بهدف إبراز الفروقات بينها، للوقوف على دقائق هذا الكتاب الذي كما قال فيه علي بن أبي طالب لا تنقضي عجائبه، ولإيماني العميق بعدم انقضاء عجائبه قادتني كلمة «هب» إلى الحفر عن أرحامها (آتى، أعطى، أهدى) وكلها وردت في المُحكم الحكيم. الهبة تأتي عن سؤال وطلب كما يتضح من سؤال سيدنا زكريا، وبما أنَّ الله يتصف بالوهاب فإنه سبحانه يهب الناس على قدر استحقاقهم، من دون انتظار الرد أو التعويض من الذي وهبه «والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذُرياتنا قُرة أعين واجعلنا للمتقين إماما» الطلب والرجاء والدعاء في هذه الآية واضح لا يحتاج لمزيد من القول، وهذا ينطبق على الناس أيضًا، فكيف برب الناس مالك المُلك، وهذا ما يُميز الهبة عن الهدية، فالهدية تكون بدافع شعوري ومحبة اتجاه الآخر وبدون وجود الحاجة ولا تكون بطلب بل تكون مبادرة من شخص لشخص، وغالبًا تكون بين النظراء والأنداد ولكن ليس بالمطلق فقد يقدم الإنسان هدية إلى ملك أو أمير، لكن في الأعم الهدية لا تكون إلا بين المتناظرين، وهدية سبأ إلى سيدنا سليمان لخير دليل على ذلك «وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون..»، والهدية مستقرة في وجدان الناس في المجال الاجتماعي من منطلق ديني ومرجعيتهم حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام «تهادوا تحابوا» فالنتيجة العظيمة من وراء الهدية هي التآلف بين الناس في المجتمع الواحد، وهي أحد أهداف الإسلام النبيلة، وما مجتمع المدينة المنورة ببعيد عن هذا الموضوع في بداياته حيث ضرب الأنصار أروع الأمثلة في التهادي وكان في كثير منه مؤسسا على الإيثار. أما «آتى» ومنها جاء الإتيان الذي يتميز بمصدره البعيد والجهل بكيفية الإيتاء «ويؤتي من لدنه أجرًا عظيما» كيف لنا أن نعرف كنه وكيفية المصدر وكيف لنا أن نُقدر الأجر الذي منحنا إياه الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية من الآيات المتشابهات التي يعجز الفكر الإنساني مجتمعًا عن أن يقف على تأويلها بالشكل النهائي، والسر كله في كلمة «لدنا» فلا يعطي الله من لدنه شيئا لأحد إلا لمن أحبه الله حبًّا عظيمًا لأنه عطاء لا يقابله عمل بل مقابل الحب ولهذا لم يقل أضعافًا مضاعفة لأن اللدن أعظم من المضاعفة مهما بلغت، لهذا فإن اللدن خاص للذين يحبونه ويحبهم، وأي عقل يستطيع الوقوف على حجم هذا التكريم للذين أحبهم الله. العطاء وهي المفردة الرابعة في هذا المقال تتميز أيضًا عن أخواتها السابقات بأن هذا العطاء فيه المُناولة عن قُرب وذلك لقلته أو لتوفره، ويكون العطاء على الأغلب ماديًّا ومثالها من محكم التنزيل «... حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» فلا بد من المناولة هنا وهي مناولة مادية كما يتضح من الآية الكريمة، وكذلك قوله تعالى «ولسوف يعطيك ربك فترضى» أصحاب التفاسير يقولون إنها تمت بالإسراء والمعراج وفيها تجتمع المناولة والمادية تكريما للرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى «فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون» نكتفي بهذه الأمثلة الكريمة من الكتاب الكريم لتأكيد معنى العطاء وما يتصف به وما يُفرقه عن الإيتاء والهبة والهدية، فأي دقة أعظم من هذه الدقة؟! في المُفردات السابقة تظهر الصفات النبيلة جلية في كل وقت وكل مكان ولكن في شهر الرحمات شهر رمضان تكون أبهى وأزهى على النفوس المعطاءة بمضاعفة الأجر لها من رب كريم وتنعكس هناءً وسرورًا على أنفس ضاقت بها الدنيا إلا من أصحاب الهمم العالية الذين ينفقون من أموالهم حبًّا لله وطاعة له، فما أجدرنا أن نُفعل هذه المعاني النبيلة في أحب الأشهر على الله ونُطيب بها نفوسا تنتظر قدوم هذا الشهر بفارغ الصبر لعلها تحقق وترسم البسمة على وجوه أنهكها الفقر وخاصة النفوس البريئة، نفوس الأطفال التي تفرح بالقليل. وختامًا هذه أُمة محمد، الخير فيها باق إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

مشاركة :