فاجأت الانتخابات العراقية بنتائجها قوى السلطة في طهران. أسفرت الانتخابات عن فوز مجموعات نيابية، لا سيما تنظيم «سائرون» التابع لمقتدى الصدر، وهو الذي خاض معركته برفع شعار الخروج الإيراني من العراق. كما أظهرت الانتخابات أن القوى المنضوية تحت سلطة الحرس الثوري وميليشياته لم تتمكن من تحقيق الغالبية التي تسمح لها بالهيمنة المطلقة على السلطة، مع الإشارة إلى أن نفوذها يبقى أساسياً في لعبة الحكم. لم تنظر طهران بارتياح إلى هذه النتائج، ما جعل قاسم سليماني قائد فيلق القدس ينتقل سريعا إلى بغداد، وفي ذهنه كيفية إعادة خلط الأوراق بين القوى، بما يضمن مجيء حكومة موالية بالكامل لطهران. من هنا بدأ الحديث عن إعادة الفرز لعدد كبير من الدوائر تحت حجة التزوير أو الأخطاء، لكن الهدف الفعلي هو السعي لتعديل النتائج بما يعيد لطهران الغلبة في المجلس النيابي. لا شك أن القلق الإيراني له ما يبرره. فالعراق كانت المحطة الأولى في تدخلها في المنطقة العربية، وهو تدخل أتى على حاملة الدبابات الأميركية وبمساعدتها عام 2003، تاريخ الاحتلال الأميركي للعراق. ومن العراق نفسه، بلور نظام طهران نظرية الهوية الدينية مقابل الهوية القومية والوطنية. تعاطى الملالي مع العراق بوصفه مجموعة مذاهب وطوائف متصارعة، تحمل إرثاً طويلاً من العداء الذي بقي مكتوماً، إلى أن أشعلت طهران ناره من الأرض العراقية، فجرى إرجاع العراق خمسة عشر قرناً إلى الوراء. كانت الهوية الدينية البديلة للهوية القومية في العراق أحد عناصر الانفجار الأهلي المسلح الذي دفع العراقيون مئات الآلاف من الضحايا ثمناً له. كانت طهران تعتبر أن انتصارها وديمومته مرهونان بالتعبئة الأيديولوجية الدينية على حساب الوطنية العراقية. فطهران تدرك أن إيران تحمل قومية أساسية هي الفارسية، كانت لسنوات طويلة على نقيض مع القومية العربية التي ينتمي إليها العراق، وأن هزائم تكبدتها القومية الفارسية على يد العرب في التاريخ العربي السابق. لذا تدرك طهران أن تناقضاً موضوعياً بين الشعبين له جذوره في التاريخ والجغرافيا والسياسة. ما يجعل من الدفع بالهوية الدينية الوسيلة الوحيدة لطمس هذا العداء القومي وتحويل الصراع إلى طائفي ومذهبي. بالتأكيد، حققت طهران إنجازات ضخمة في هذا المجال، جعلها تدفع بأيدولوجيتها هذه إلى الأبعد، فانتقلت هذه النظرية إلى سورية واليمن، ناهيك بلبنان. لا تنبع الهواجس الإيرانية من فراغ. فمنذ سنوات يشهد العراق اعتراضات على الوجود الإيراني وتدخله في إدارة البلاد، وصلت مرات كثيرة إلى تنظيم تظاهرات تدعو إلى خروج إيران، كما رفعت أكثر من مرة شعارات من نوع «إيران برّا»، والعراق عربي، إضافة إلى التنديد بالوجود الفارسي، بما يشي باستعادة التناقض القومي الفارسي العربي. يضاف إلى ذلك ارتفاع الأصوات ضد النهب الذي يمارسه القادة الإيرانيون للثروات العراقية وانغماسهم في ملفات فساد لا حدود لها، وتكوين جماعات تابعة للحرس الثوري تمارس سرقة الثروات. هكذا بدأت طهران تشعر بتشابك الاعتراضات العراقية ضدها، من ملفات اقتصادية واجتماعية، إلى اعتراضات على التدخلات السياسية الفاقعة، إلى استنفار التناقض القومي بين البلدين. يزيد من مخاوف طهران ما تشهده من حملة إقليمية ودولية لتقليص دورها الإقليمي وعودة نفوذها إلى داخل طهران. ما الذي يمكن توقعه من طهران جواباً عن هذا التحول الذي يهب في وجهها؟ يخطئ من يعتقد أن طهران ستنكفئ عن العراق أو تقلص وجودها السياسي والعسكري فيه. فالعراق مصدر القوة الإقليمية الأساس لطهران، ومصدر استثمار مالي واقتصادي، ومصدر تصدير الأيديولوجية الدينية ذات الطابع المذهبي، ولا ننسى أن قادة طهران اعتبروا بغداد عاصمة الإمبراطورية الفارسية. أمام ما يشبه الحصار، سيكون في يد طهران وسائل متعددة للرد. أولها استحضار القوى السياسية في الداخل الإيراني، من ميليشيات ونواب ووزراء، وتكتيلهم في شكل يضمن لها نفوذها في الحكم. في هذا المجال، فإن شبكة المصالح الإيرانية- العراقية متينة ومتجذرة إلى أبعد الحدود. كما في جعبة إيران إعادة وضع العراق أمام حرب أهلية مذهبية بين المجموعات السنية والشيعية، واستحضار تنظيم «داعش» مجدداً، وهي التي كانت في طليعة إطلاقه في ما سبق. هذا السيناريو سيعيد إغراق العراق في الفوضى الأهلية، بما يجعل من طهران حاجة دولية وأميركية لضبط الوضع ومنع تمدده. إن معركة طهران في العراق هي معركة إيرانية داخلية، وأي هزيمة لها ستنعكس على الداخل الإيراني الذي يشهد تصدعات اجتماعية وقومية وطائفية. وستصبح المعركة أشرس كلما أحست طهران أن الوضع العراقي ينحو نحو استحضار الشعور القومي العربي في مواجهة المد الفارسي. * كاتب لبناني
مشاركة :