«مدرسة فيتبسك» لشاغال ورفاقه: 4 سنوات من الحداثة والحرية والأنانية

  • 6/6/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

من بين عشرات المعارض الفنية التي تقام في العاصمة الفرنسية في هذه الأيام، هناك على الأقل معرضان يسجلان تدفقاً مدهشاً للمتفرجين حتى وإن لم يكن في الإمكان القول إن أي واحد منهما استثنائيّ؛ أولهما والذي سنعود الى الحديث عنه عما قريب، هو ذاك المكرس في قاعة نابوليون بمتحف اللوفر، لطائفة كبيرة من أعمال سيد الرومانطيقيين الفرنسيين أوجين ديلا كروا. أما الثاني فأقرب الى أن يكون معرضاً جماعياً. أو هو بالأحرى معرض يقدم ما يربو على المئتين وخمسين قطعة بين لوحة ورسمة ووثيقة لا تكشف عن فن مبدع بعينه وإنما عن مدرسة إبداعية من علاماتها بعض الأسماء الكبيرة في عالم الحداثة الفنية في أوروبا، لكن أهميتها تتجاوز ذلك البعد بكثير حتى ولو حملت بشكل رئيسي أسماء فنانين من طينة مارك شاغال وإيل ليستسكي وكازيمير ماليفتش من الذين يعتبر كل واحد منهم بمفرده مَعْلماً أساسياً من معالم الفن في القرن العشرين. فأهمية تلك المدرسة التي لم تدم على أيّ حال سوى أربع سنوات (1918 - 1922)، تكمن في أنها جمعت في مكان واحد هو مبنى مصادر في بلدة روسية صغيرة - تتبع الآن جمهورية بيلاروسيا - هي فيتبسك أولئك الفنانين الكبار الذين اندفعوا إليها مؤسسين معاً تلك المدرسة - بالمعنى التعليمي الحقيقي للكلمة - التي أرادت أن تكون فريدة من نوعها في العالم، في تعليم الفن وتحريكه ضمن إطار الحماسة التي أثارها انتصار الثورة الروسية البولشفية والآمال التحديثية التي انعقدت عليها حينها. لكنها سرعان ما انفرطت كما سنرى بعد سطور، تحت وطأة الأنانيات الفردية تاركة المجال للسلطات كي تقضي عليها نهائياً وهي بعد في عمر الطفولة. > تبدأ حكاية مدرسة فيتبسك الشعبية للفن قبل مئة عام بالتمام من يومنا هذا ومع الرسام مارك شاغال الذي كان قد عاد الى بلدته تلك وقد عيّنه مسؤول الشؤون الفنية في الحكومة الثورية الأولى لوناتشارسكي مفوضاً للفنون الجميلة في بلدته تحديداً، وهمّه أن يؤسس مدرسة وربما تياراً ينقل إليه ضروب الحداثة التي كان عايشها وشارك فيها خلال إقامته في أوروبا عموماً وباريس خصوصاً قبل ذلك بسنوات. ونعرف أن شاغال لم يكن قد عاد من باريس في العام 1914 الى روسيا إلا لكي يتزوج من حبيبته بيلا روزنفيلد ويصحبها معه الى «موطنه» الفرنسي الجديد. لكن الحرب العالمية الأولى فاجأته باندلاعها ليجد نفسه عاجزاً عن العودة الى أوروبا. وهكذا ما كان منه وهو المليء بالحماسة الثورية، إلا أن انخرط في النشاطات الفنية - السياسية المعارضة ليجد نفسه مع اندلاع انتفاضة شباط (فبراير) 1917، ثم الثورة نفسها بعد ذلك بشهور، جزءاً من الثورة معتقداً أن حداثته الفنية لا تتعارض معها. وهكذا حين كلفه لوناتشارسكي بتأسيس تلك المدرسة وفقاً لتصوراته الحداثية، اندفع الى ذلك وقد اختار سبيله الفني والسياسي بفرح. وهكذا راح يتصل بعدد من رفاقه الفنانين داعياً إياهم للانضمام إليه في مسار يقوم على تلقين الفن والحرية والحداثة معاً لنحو مئة وعشرين طالباً استوعبتهم المدرسة... > كانت الدراسة في مدرسة فيتبسك حرة تماماً ومجانية بالطبع، وكان مجلسها التعليمي يضم ما لا يقل عن عشرين فناناً ومنظّراً كبيراً من النساء والرجال الذين كانوا جميعاً يؤمنون بالحداثة الفنية وكانوا متنوعي المشارب والخلفيات والتيارات من رمزيين وتصويريين وحتى تكعيبيين. وبدا واضحاً في البداية أن ما من واحد منهم حاول أن يطغى بفنّه ونظرياته على الآخرين. ولقد بقيت لنا من تلك المرحلة الأولى شهادات عدة لمبدعين روس، في مجالات أخرى غير الفنون التشكيلية أشادوا بتلك التجارب معتبرينها إرهاصاً بالدور الكبير الذي سوف تلعبه الفنون في التاريخ المقبل لذلك البلد. وكان من بين المعلّقين السينمائي سيرغاي أيزنشتاين الذي وجدها فرصة لولادة ما كان ينادي به من تلاق بين السينما والأدب والفنون التشكيلية. والحال أن الوضع في مدرسة فيتبسك ظل على تلك الحال حتى انضمام كازيمير ماليفتش اليها هو الذي وصل بدعوة من ليستسكي وترحيب حارّ من شاغال نفسه على رغم معرفته بأن زميله القادم حديثاً ينظر الى الفنون نظرة مختلفة عن نظرته تماما. ولكن لا بأس، أفلم يكن الشعار هنا ترك كل الزهور تتفتح؟ > أجل، راحت كل الزهور تتفتح. ولكن الزهور التي رواها مالفتش بدت أكثر طراوة وطزاجة، وبدا فنه أكثر اجتذاباً للطلاب بتجريديته وتحرره المطلق من كل قيد. ثم إن ماليفتش نفسه بدا أكثر كاريزمية بكثير مما هم عليه بقية رفاقه المدرسين الفنانين. وهو بخاصة بدا أكثر قدرة من شاغال نفسه على إيصال آرائه ونظرياته الى الطلاب الذين كانت قد استبدت بهم «جرثومة» الحرية الخالصة ليبدو فن شاغال بالنسبة اليهم تقليدياً بعض الشيء في انصرافه الى التيمات المحددة والنزعة التصويرية، بل حتى الى الرمزية المرتبطة بمواضيع دينية كان من الصعب على طلاب ثوريين أن يتوافقوا معها حتى وإن كان معروفاً أن نزوع شاغال «الديني» اليهودي في لوحاته لتلك المرحلة يتلاءم تماماً مع المناخ العام المهيمن على بلدة فيتبسك كما على العدد الأكبر من الطلاب من أبناء البلدة والمناطق المجاورة لها من الذين أتت الثورة البولشفية نفسها لتحررهم من الأوضاع السابقة البائسة التي كانوا يعيشونها... > المهم، بعد وصول ماليفتش بفترة قليلة، بدا واضحاً أن الصراع قد بات حامي الوطيس بين نظرتين الى الفن حداثيتين معا وثوريتين معاً. واحدة تنهل من شاغال وأساتذة آخرين يسيرون على دربه، والثانية تلتقي تماماً مع ماليفتش وانطلاقيته وتستفيد من شخصيته الطاغية على حساب شاغال الذي كانت شخصيته تعرف شيئاً من الانطواء على أي حال. والحقيقة أن ماليفتش لم يكتف بخوض تلك المعركة ضد رفيقه السابق، بل كوّن مع ليستسكي وعدد من الآخرين، تياراً فنياً أطلقوا عليه اسم «أونفيس» محيلين بالاسم الى مبدأ حرية الفن الخالصة. وهكذا أمام جاذبية هذا التوجه، صار يمكن لماليفتش أن يحس بأنه يملك الغالبية المطلقة هنا وأن معظم الطلاب يقفون الى جانبه الى درجة أن واحداً منهم - ليف يودين - لخّص توجههم في مذكراته اللاحقة بقوله: «نحن معاً فقط سوف ننتصر، أما إذا خضنا الصراع منفردين فإننا لن نصل الى أي مكان». والحقيقة أن شاغال راح يخوض صراعه منفرداً في الوقت الذي تمترس فيه الباقون خلف فكرة الفن الجماعي الثوري المرتكز على تيار أُطلق عليه اسم «التجاوزية» أو «السموّ» سوف يصبح لاحقاً مرتبطاً نهائياً باسم ماليفتش بخاصة منذ هاجر هذا الأخير الى الغرب منشقاً، كما فعل شاغال من قبله. مهما يكن، في الوقت الذي كان فيه شاغال يستعد للتخلي عن المدرسة والعودة الى بتروغراد - التي ستصبح بعد ذلك لينينغراد - وكان ماليفتش يواصل هيمنته على المدرسة مكثفاً من علاقاته بالسلطات المركزية ومن إقامة الروابط مع الكثير من النشاطات الفنية الأخرى في العاصمة وغيرها، كان المشروع كله قد بدأ يذوي. وراح يبدو واضحاً أن الأوضاع الاقتصادية الرديئة الناتجة من الحرب الأهلية ستعطي الفرصة لمناوئي المشروع في الحزب والدولة لضربه بحجة نقص التمويل. وهكذا بعد أن ضُرب المشروع من الداخل بفعل الصراعات والأنانيات كما أشرنا، بات من السهل ضربه من هناك، من العاصمة حيث القرار كما حيث كان الخوف قد ساد من ذلك «الإفراط في الحرية» الذي بات المشروع يشير إليه بكل وضوح. وهكذا، وكما يحدث، مثلاً، في المشهد الأخير لفيلم «عصابات نيويورك» لمارتن سكورسيزي حين تستغل السلطات الصراع الذي ينشب بين العصابات على الزعامة في المدينة فتطلق مدفعيتها على الفريقين معاً لتستعيد ما تعتبره حقها بعد إزالتهما، أطلقت موسكو وسلطتها المركزية «مدفعيتها الثقيلة» على التجريديين والرمزيين والتكعيبيين معاً متخلصة منهم جميعاً كما من ذلك الفضاء الفني الحداثي الذي خلقوه سوية ثم بدأوا في تدميره معاً، قبل أن تطلق هي عليه رصاصة الرحمة. ويومها نعرف أن ما نتج من تلك الرصاصة إنما كان تلك «الواقعية الاشتراكية» التي سوف تسود الفنون السوفياتية خلا عقوداً كان فيها شاغال وماليفتش وليستسكي وعشرات غيرهم من الفنانين الروس يطوفون حول العالم ناشرين حداثة فنية ها هي جذورها تتجمع اليوم في قاعات مركز جورج بومبيدو وسط العاصمة الفرنسية لتروي حكاية أربع سنوات من الإبداع والحرية والأنانية.

مشاركة :