يبدو أن نظام الملالي في إيران يسعى إلى حتفه باختياره طريق التحدي والمواجهة مع المجتمع الدولي المصمم بالإجماع على عدم السماح لهذا النظام بتطوير سلاح نووي. فقد طلب المرشد علي خامنئي القيام بالاستعدادات اللازمة لزيادة تخصيب اليورانيوم إذا انهار الاتفاق النووي المبرم مع الدول الكبرى عام 2015م، وهو الأمر الذي تمت ترجمته سريعاً من خلال تصريح ل «بهروز كمالوندي» المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، الذي أكد أن بلاده ستبلغ الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة ببدء عملية لزيادة قدرة طهران على تخصيب اليورانيوم، مضيفاً أن إيران لديها القدرة على الإسراع بإنتاج أجهزة الطرد المركزي التي تستخدم في تخصيب اليورانيوم. وذلك على الرغم من تصريح صدر في وقت سابق من مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية «يوكيو أمانو»، أكد فيه التزام إيران الكامل بخطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي. ويجيء الموقف الإيراني متزامناً مع مطالبة الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» في اتصال مع رئيسة الوزراء البريطانية «تيريزا ماي» إلى إبرام اتفاق جديد وشامل يتناول جميع جوانب تصرفات إيران المزعزعة للاستقرار، وخاصة في سوريا واليمن. وفيما يبدو بأنها مقايضة بالبقاء الإيراني في التفاق من عدمه، على إثر انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشهر الماضي من الاتفاق النووي، وجه وزير الخارجية الإيراني «محمد جواد ظريف» رسالة إلى نظرائه الأوروبيين في إطار تكثيف جهوده لإنقاذ الاتفاق النووي بعد الانسحاب الأمريكي، مطالباً الموقعين والشركاء التجاريين الآخرين بتعويض إيران عن خسائرها الناجمة عن انسحاب الولايات المتحدة إذا كانوا يريدون إنقاذ الاتفاق!، لكن الموقف الأوروبى جاء متأرجحاً وغير قادر على مواجهة النفوذ الأمريكي إلى النهاية، فالشركات الأوروبية بدأت في حزم حقائبها لمغادرة إيران، إذ قالت مجموعة «بي إس أيه بيجو ستروين» إنها بدأت تعليق أنشطة مشروعاتها المشتركة في إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي المبرم مع طهران، وقالت الشركة في بيان لها إنها بدأت تعليق أنشطة مشروعاتها المشتركة لكي تصبح ملتزمة بالقانون الأمريكي بحلول السادس من أغسطس القادم، كما تحدثت تقارير عن أن شركة جنرال إلكتريك ستغلق مكاتبها في إيران، وتمنع بيع المعدات المتعلقة بالنفط والغاز إليها في الأشهر المقبلة، كما أعلنت شركة «دایلیم اینداستاریال» الكورية الجنوبية أنها ألغت صفقة قيمتها ملياري دولار مع إيران، كانت قد أبرمت قبل سنة حول مشروع إنشاء مصفاة للنفط في أصفهان، ويتواصل مسلسل الانسحابات مع خروج شركات عملاقة من السوق الإيرانية مثل شركة «لوك أويل» الروسية النفطية و«توتال» الفرنسية، وبريتش بتروليوم البريطانية، والشركة الإيطالية «إيني»، في حين قالت أكبر شركتين للشحن في العالم، وهما «ميرسك» الدنماركية وشركة البحر المتوسط للشحن التي تتخذ من سويسرا مقراً لها، إنهما ستخفضان شحنات البضائع العامة إلى إيران، في سياق متصل أوقفت بعض البنوك الأوروبية تعاملاتها مع إيران، حيث علّق البنك التجاري السويسري معاملات جديدة مع إيران، بينما أعلنت «مؤسسة الإقراض الألمانية» عن قرارها بإيقاف جميع المعاملات المالية مع إيران في يوليو المقبل. وفي الإطار تسعى طهران إلى تسريع مبيعاتها النفطية قبل انتهاء المهلة الأمريكية لإعادة فرض عقوبات على القطاع البترولي لديها، والتي ستنتهي في نوفمبر المقبل. وسيكون للعقوبات أثر عظيم على الاقتصاد الإيراني الذي يوشك على الانهيار بحسب بعض الخبراء ومراكز الأبحاث، خاصةً في ظل هبوط قيمة العملة الإيرانية وهروب رؤوس الأموال، وانسحاب الشركات الكبرى، وفرض الحظر المالي، وتحديد شراء النفط. على صعيد آخر ما زال الوضع الداخلي في إيران يعيش حالة من الغليان، مع استمرار إضراب سائقي الشاحنات، على الرغم من تهديد السلطات بمواجهة المضربين وفرض غرامات مالية عليهم بتهم الإخلال بالأمن والدعاية ضد النظام. من جهته فقد هاجم رجل الدين المتشدد وعضو مجلس خبراء القيادة «أحمد علم الهدى» استمرار الإضراب، قائلاً إن «إيران ليست فرنسا أو بريطانيا، حيث يمكنك المشاركة في الإضراب»، وعلى الرغم من التحذيرات فقد نشر ناشطون مقاطع تظهر تواصل الإضراب في مختلف المحافظات الإيرانية، وقد أظهرت مقاطع الفيديو السائقين المحتجين وهم يهاجمون قوات مكافحة الشغب، مأكدين الاستمرار في الإضراب حتى تحقيق مطالبهم، وكان الإيرانيون عبر مواقع التواصل الاجتماعي قد أطلقوا حملة تساند الإضراب العام لسائقي الشاحنات في إيران المستمر منذ عشرة أيام وفي إطار متصل فقد تشكلت حالة من التضامن الدولي مع الاعتصامات الإيرانية، إذ أصدر اتحاد سائقي الشاحنات في شمال أمريكا بياناً أعلن فيه تضامنه مع إضراب زملائهم في إيران، كما أعلن «الاتحاد الوطني للنقابات الفرنسية في مجال النقل» التابع «للاتحاد العام للعمل» وهو واحد من أهم النقابات العمالية الفرنسية، تضامنه مع سائقي الشاحنات الإيرانيين. وفي ظل تدهور الأوضاع المعيشية في إيران، يتزامن إضراب سائقي الشاحنات مع الاحتجاجات المتفرقة للمزارعين والعمال والعاطلين عن العمل، حيث يطالب المحتجون النظام بالكف عن تبذير موارد الشعب على التدخلات العسكرية في دول المنطقة ودعم الميليشيات الإرهابية، مطالبين النظام بالتركيز على تنمية الداخل الإيراني، ومكافحة الفقر وتحسين حياة المواطنين. حيث واصل عمّال مصنع الصلب في الأهواز مسيراتهم الاحتجاجية مطالبين بتحسين ظروف عملهم، في حين تواصلت احتجاجات عمال مصانع قصب السكر لعدم دفع رواتبهم لمدة ثلاثة أشهر، وكذلك واصل الفلاحون في الأهواز تجمعاتهم على مدى الأيام الماضية احتجاجاً على منع زراعة الأرز، حيث تقوم الحكومة بحرف المياه لمصلحة مشاريع زراعية تتبع لشركات الحرس الثوري. مقايضة إيرانية بشأن اليمن «إيران مستعدة لإجراء محادثات مع أوروبا فيما يتعلق باليمن، وليست مستعدة لإجراء محادثات في أي من قضايا المنطقة التي تطالب بها الدول الأوروبية»، هكذا صرح نائب وزير الخارجية الإيراني «عباس عراقجي»، فاضحاً بشكل صريح التورط الإيراني في كل ما يجري باليمن، كما أن القبول والعرض الإيراني بإجراء مفاوضات بشأن اليمن يقدم دلالات واضحة حول خفوت القوة الإيرانية هناك، خاصة في ظل خسائر حليفها الحوثي التي يتكبدها بفضل ضربات التحالف العربي، لكن هذه ليست المرة الأولى التي تعترف إيران بتدخلها في اليمن، إذ أقرت لأول مرة بضلوعها في الصراع الدائر في اليمن في نوفمبر الماضي، عندما قال «محمد علي جعفري» قائد الحرس الثوري الإيراني إن بلاده قدمت المساعدات في صورة المشورة لحلفائها في اليمن. المشكلة الحقيقية بخصوص الملف اليمني أن إيران تعرض الآن التفاوض بشأن اليمن كنوع من المقايضة مع الغرب، فهى تريد أن تخرج من مأزق الاتفاق النووي الذي يوشك على الانهيار والعقوبات التي ستُفرض عليها عما قريب، وفي الوقت نفسه تحافظ على موطئ قدم في الملفات المهمة في المنطقة، فلو كانت طهران ترغب حقاً في إيجاد حل جوهري للوضع اليمني لالتزمت بالقرار الدولي الصادر عن الأمم المتحدة رقم 2216 حول الحل السياسي في اليمن، لكنها بدلاً من ذلك تجاهلته وقدمت مقترِحاً لحل آخر. تصريحات «عراقجي» المثيرة أعقبها تصريح لرئيس الحكومة اليمنية «أحمد بن دغر» أكد فيها على أن «ميليشيات الحوثي أدوات لإيران، ووكيل مشروعها وأوهامها التوسعية الإمبراطورية، في تقويض الأمن الخليجي والعربي وتهديد الملاحة الدولية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر أحد أهم خطوط التجارة العالمية»، مؤكداً رفض تحويل اليمن إلى منصة لصواريخ إيران ومشروعها التوسعي الهادف إلى إقلاق الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، داعياً المجتمع الدولي إلى الضغط بجدية على النظام الإيراني، لكف تدخلاته في المنطقة العربية عموماً، والتخلي عن أوهامه التوسعية، لافتاً إلى أن ذلك من شأنه إنهاء الكارثة الإنسانية في اليمن التي تسببت بها ميليشيات الحوثي بشكل عاجل، واتهم ميليشيات الحوثي ومن ورائها إيران بتعطيل مساعي الحل السياسي، وأضاف بن دغر: «لن نصبر كثيراً على معاناة الشعب اليمني وجعلهم رهينة للتسويف والمراوغة والالتفاف من قبل ميليشيات الحوثي وداعميها في طهران»، مهدداً بأن عدم تنفيذهم خطوات عملية للحل السياسي، سيجعل الجيش اليمني بدعم من تحالف دعم الشرعية يمضي قدماً لاستكمال إنهاء الانقلاب وإجهاض المشروع الإيراني. ومن ناحية أخرى ما زالت الضبابية تلفت المشهد السياسي في سوريا، ففي ظل تفاهمات معلنة وأخرى يكتنفها الغموض، يجري الحديث عن رغبة أمريكية إسرائيلية بتعديل الاتفاق بشأن منطقة الجنوب السوري، خاصة مناطق درعا والقنيطرة، والتي تمثل آخر معاقل المعارضة السورية هناك، إذ سيتم السماح للنظام بنشر قواته فيها، بشرط أن تنسحب إيران وميليشياتها باتجاه العمق السوري. لكن على الرغم من الحقائق الواضحة على الأرض والتي تتحدث عنها التقارير الإعلامية من وقتٍ لآخر، فإن تضارب التصريحات ما زال مستمراً، فبينما أعلنت روسيا ضمنياً عن اتفاق ينص بشكل واضح على انسحاب ميليشيات إيران من المنطقة الجنوبية من سوريا، حيث أعلن ذلك رئيس مجلس الأمن الدولي، السفير الروسي «فاسيلي نيبيزيا»، قبل أيام، مؤكداً على أن الأمر قد تمَّ في ظل تفهمات بين موسكو وتل أبيب وبموافقة كل الأطراف المعنية، وعلى الرغم من أن الوجود الإيراني في سوريا لم يعد سراً على أحد، فقد صدر تصريح متناقض تماماً في وقت لاحق من رأس النظام السوري «بشار الأسد» الذي نفى في لقاء مع قناة فضائية روسية وجود قوات إيرانية في سوريا، مؤكداً: «الحقيقة الأكثر أهمية فيما يتعلق بهذه القضية هي أنه ليس لدينا قوات إيرانية، لم يكن لدينا أي قوات إيرانية في أي وقت من الأوقات، ولا يمكن إخفاء ذلك، ولا نخجل من القول بأن لدينا مثل هذه القوات، لو كانت موجودة، فنحن من دعونا الروس وكان بإمكاننا أن ندعو الإيرانيين». وهو تصريح يثير العجب عندما يتعارض مع تصريحات مستشار رئيس أركان الجيش الإيراني «مسعود جزايري»، الذي أكد في تصريحات لوكالة «تسنيم» للأنباء، أن المستشارين العسكريين الإيرانيين موجودون في سوريا بطلب من حكومتها، مؤكداً أن المساعي الإسرائيلية الأمريكية لن تغير من ذلك الوضع. الوجود الإيراني في سوريا يعمق ارتباط النظام أكثر بطهران، فالأمر يتجاوز الوجود العسكري، إذ تسعى طهران إلى زرع بذور مؤسساتها الأيديولوجية في الداخل السوري، وبالفعل يوجد الآن نحو 12 منظمة مرتبطة بإيران، تعمل على إقامة مشاريع تخدم الطائفة التابعة لها، وتقدم مساعدات لعائلات الميليشيات السورية المدعومة من طهران. مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية نشرت مؤخراً تقريرًا مطولًا تناولت خلاله الوجود الإيراني في سوريا، وقد أشار التقرير إلى أن طهران استثمرت الكثير من الدماء والثروة داخل سوريا، حيث بلغ حجم إنفاقها 30 مليار دولار حتى الآن، لذلك فهي عازمة على جني المكاسب الإستراتيجية المحتملة على المدى الطويل، حتى لو كانت على حساب المزيد من الخسائر، ودائمًا ما تتمسك إيران بأن وجودها في سوريا بناءً على طلب من دمشق، وأنها لن تغادر إلا إذا طالبت هي بذلك، وعلى الرغم من أن انسحاب إيران من سوريا كان ضمن الشروط ال12 التي قدمتها الولايات المتحدة على لسان وزير خارجيتها «مايك بومبيو»، لإلغاء العقوبات بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي في الشهر الماضي، إلا أن البعض يرى أن إيران تخطط للاندفاع على كل الجبهات، وذلك رداً على الانسحاب من الاتفاق النووى وإعادة فرض العقوبات، والمرجح هو أن النظام الإيرانى سيبذل جهده كله لإثارة القلاقل على كل الجبهات من خلال تحريك أذرعه بقوة، متجنباً أي مواجهة عسكرية مفتوحة. لكن الوجود الإيراني في سوريا بات يشكل معضلة لكل الأطراف الفاعلة في الملف السوري، فمشاركة أي قوات إيرانية في الهجوم المحتمل والذي يجهز له جيش النظام السوري، سيجعل تلك القوات على مقربة من إسرائيل، وهو ما يشير إلى احتمال حدوث تصعيد أوسع مع إسرائيل، وهو الأمر الذي تبذل روسيا جهوداً دبلوماسية مضنية لتجنبه، فالروس أنفسهم - وعلى الرغم من كونهم حلفاء لطهران ومن المعسكر نفسه في سوريا - باتوا يضيقون ذرعاً بالوجود الإيراني، وهذا ما كشفه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين من خلال دعوته بضرورة انسحاب جميع القوات الأجنبية من سوريا، قبل أن يعود مبعوثه للأزمة السورية ليقول بوضوح إن ذلك يشمل القوات الإيرانية، وفي ذات الوقت لم تحرك موسكو ساكناً أثناء ضرب إسرائيل لمواقع القوات الإيرانية في الأراضي والقواعد السورية.
مشاركة :