إعداد: عثمان حسن هو مرجع في ذاته.. فلسفياً وسياسياً واجتماعياً، تماماً كما كان مؤلفه الأثير، «روح القوانين»، منبع الفلسفة السياسية الحديثة، ومؤسس مبادئها، لا سيما المبدأ الذي ترسخ في علوم السياسة منذ عصر التنوير، عصره، بالفصل بين السلطات الثلاث، والتوازن فيما بينها.مونتسكيو.. رائد من رواد عصر الأنوار في أوروبا، فرنسي أرستقراطي، مدافع عن الحرية وعدو للاستبداد، داعية للتسامح والانفتاح، كاره للتعصب والأصولية، مقدس للعقل والفضيلة.. لكنه مع ذلك كله لم يتخلص من أثر بيئته تماماً، فكانت ملامح من الطبقية ماثلة في بعض المبادئ السياسية التي قررها في شكل الدولة الأنموذج التي رسم قواعدها. «رسائل فارسية» هذا الكتاب هو أبرز ما ألف مونتسكيو، قبل كتابه الأهم «روح القوانين»، وقد وضعه بلغة ساخرة، منتقداً طبيعة المجتمع والدولة في فرنسا وأوروبا، مستخدماً اسماً مستعاراً لسائحين فارسيين يزوران فرنسا، وذلك خشية الملاحقة المتوقعة من قبل السلطة الدينية، التي كانت في ذلك الوقت تضطهد الفلاسفة في أوروبا وتلاحق المفكرين والمؤلفين الناقدين للفكر السائد.احتوى كتاب «رسائل فارسية» نقداً لاذعاً للتعصب والأصولية، والفكر الأوروبي الذي اعتبره مونتسكيو شاذاً وآيلاً للزوال، متنبئاً بالتغيير الحتمي الذي سيقوض أصول الحكم السائدة، ويضع أسساً جديدة للدولة الحديثة، دون أن يخلو الكتاب من انتقادات مقابلة للأفكار الشرقية، وما اعتبرها مونتسكيو حماقات في السلوك والمعتقد. «روح القوانين» هذا كتابه الخالد، وأثره الفريد، الذي يضعه الدارسون إلى جانب «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو، ومن قبلهما «السياسة» لأرسطو، في رأس كتب الفلسفة السياسية عبر التاريخ.هنا يقدم مونتسكيو خلاصة تجربته ودراسته وأبحاثه، وهنا أيضاً يصطدم مع رجال الدين والحكم وجمع من المفكرين، لكنه هنا كذلك يسطر علامة فارقة في العلم السياسي، ستكون من بعد هي الأساس في معظم الأنظمة السياسية الحديثة.يقرر مونتسكيو أن الدولة يجب أن تقوم على سلطات ثلاث: تشريعية تقر القوانين والأنظمة، وتنفيذية تتولى إدارة الدولة من خلال هذه التشريعات، وقضائية تضمن سلامة القوانين ومطابقتها للدستور، ثم تفصل في الخصومة وتحاسب على الخطأ. ولا بد من الفصل بين السلطات الثلاث، واستقلال كل منها بمهامها وصلاحياتها، فلا تتغول واحدة على أخرى.ويرى أن السلطة التشريعية يجب أن تنقسم إلى مجلسين: يمثل أحدهما أولئك المنتخبون من عامة الشعب، فيما يمثل الآخر رجال النخبة في المجتمع.وفي حديث مونتسكيو هنا عن طبقة من المتميزين في المجتمع عليها أن تضمن عدم إساءة العامة لاستعمال السلطة، ما يشي بوضوح بأثر خلفيته الأرستقراطية،ويوضح مونتسكيو في كتابه كيف يضمن مبدأ الفصل بين السلطات هذا، العدالة في السلطة وإدارة الدولة، من خلال رقابة كل سلطة على الأخرى، وهو ما يهيئ للحرية، التي يؤكد عليها مونتسكيو كثابت أساس يتحقق من خلال القانون.وقد وضع مونتسكيو في «روح القوانين» ما يتجاوز علوم السياسة وإدارة الدولة، إلى البحث الاجتماعي الفلسفي الأخلاقي، الذي يحدد العلاقات الحضارية، والصلات بين القوانين والأديان والعادات، وعوامل أخرى من بينها الجغرافيا والمناخ اللذان كان لافتاً تأكيد مونتسكيو على أثرهما في حضارة الأمة وفكرها، وهو ما قدم له أمثلة تحتمل - بلا شك - الكثير من الجدل، لا سيما في تلك النماذج المقارنة بين الشرق والغرب، أو قل بين الشمال والجنوب، تبعاً للمناخ كعامل أساسي في هذا الباب.ويشرح مونتسكيو أنظمة الحكم، أشكالها وخصائصها، فضائلها وجرائرها، على نحو مفصل، يخلص من خلاله إلى التأكيد على معاني الحرية والانفتاح والتسامح والعدالة، كمبادئ مؤسسة للدولة الأنموذج التي يقدمها بديلاً تقدمياً لما رأى أنها دولة الاستبداد والأصولية الزائلة في أوروبا.أما الفضيلة، فهي عنوان آخر يضعه مونتسكيو أساساً لازماً للدولة، ينضوي في إهابها حب الوطن والمساواة بين المواطنين، سياسياً واقتصادياً، حتى أنه قرر مبدأ التصاعدية في فرض الضرائب، الذي تنادي به الدولة الحديثة الآن وتجعله عنواناً من عناوين العدالة الاجتماعية. عن «روح القوانين» خلال تأليف الكتاب، قال مونتسكيو: «إذا صادف هذا العمل نجاحاً، فسأكون مديناً به لعظمة الموضوع وجلاله».الجمهورية والقوانين لأفلاطون، السياسة والحيوانات لأرسطو، الأعمال الأخلاقية لبروتارخ، الأمير لميكافيللي، المدينة المثالية لتوماس مور... هذه جميعها، إلى جانب المحاورات مع الفلاسفة والمفكرين المعاصرين، هي المراجع التي اعتمد عليها مونتسكيو في تأليف «روح القوانين».دفاع عن «روح القوانين».. كتاب أصدره مونتسكيو بعد عامين في إثر الضجة والجدل الكبيرين حول مؤلفه. فور سماح الرقابة الفرنسية بنشر الكتاب، صدرت عشرون طبعة منه خلال عامين، كما ترجم إلى معظم اللغات الأوروبية. قالوا في الكتاب: «على مدى أربعين عاماً منذ صدور روح القوانين، لم يقبل الناس على قراءة كتاب أكثر منه». (المؤرخ الانجليزي إدوارد جيبون).«روح القوانين» هو أفضل الكتب بعد كتاب الأمير. (فردريش الأكبر، ملك بروسيا).«على مدى جيل واحد من الزمان، كان مونتسكيو، لا فولتير، هو صوت العقل وبطله في فرنسا». (ول ديورانت، صاحب كتاب قصة الحضارة). مقتطفات من السيرة في كتابه «الملكية العالمية» قسم مونتسكيو الشعوب إلى شمالية وجنوبية، معتبراً أن المناخ هو السبب الأساسي للاختلاف بين الجانبين.رغم تلقيه تربية مسيحية في طفولته، أخذ مونتسكيو يبتعد عن الأصولية المسيحية خلال تقدمه في العمر.وضع مونتسيكو كتاب «الرسائل الفارسية» في سن الثانية والثلاثين، وصدر له كتابان قبله. «رسائل عن الإنجليز» كتاب لفولتير شبيه ب «الرسائل الفارسية» لمونتسكيو حضر مونتسكيو جلسات البرلمان الإنجليزي، وأعجب بالنظام السياسي البريطاني، وبالحرية التي يتمتع بها الإنجليز. «نظرات في أسباب رفعة الرومان وسقوطهم» كتاب لمونتسكيو صدر بعد «الرسائل الفارسية» دون أن يحظى باهتمام مماثل.«دنيس ديدرو» هو الأديب الوحيد الذي شارك في تشييع جنازة مونتسكيو. مقتطفات من «روح القوانين» في الفصل الثالث من كتاب «روح القوانين» ومن ترجمة عادل زعيتر، جاء تحت فصل «القوانين الوضعية»:عندما يصبح الناس في مجتمع يفقدون حس ضعفهم، وتزول المساواة التي كانت بينهم، وتبدأ حال الحرب.ويأخذ كل مجتمع خاص في الشعور بقوته، ويوجب هذا حال احتراب الأمم، ويأخذ الأفراد في كل مجتمع في الشعور بقوتهم، فيحاولون تحويل فوائد هذا المجتمع الرئيسة نفعا لأنفسهم، وهذا ما يحدث حال حرب بينهم.ونوعا حال الحرب هذان، يوجبان وضع قوانين بين الناس، والناس، إذ هم سكان سيارة عظيمة جدا، حيث توجد شعوب مختلفة بحكم الضرورة، تكون لهم قوانين سائدة لصلة هذه الشعوب فيما بينها، وهذه هي حقوق الأمم والناس، إذ هم عائشون في مجتمع يجب حفظه، وتكون لهم قوانين سائدة لصلة الحكام بالرعية، وهذه هي الحقوق السياسية، ويكون للناس أيضا من القوانين ما يسود صلة جميع الأهلين فيما بينهم، وهذه هي الحقوق المدنية.ومن الطبيعي أن تقوم حقوق الأمم على هذا المبدأ، وهو: يجب على مختلف الأمم أن تأتي أعظم خير في السلم وأقل شر في الحرب ما أمكن، وذلك من غير إضرار بمصالحها الحقيقية.والنصر غاية الحرب والفتح غاية النصر، والحفظ غاية الفتح، فمن هذا المبدأ، ومن المبدأ السابق، يجب أن تشتق جميع القوانين التي تؤلف منها حقوق الأمم. إن أكثر الحكومات ملاءمة للطبيعة، هي الحكومة التي تكون ذات وضع يوافق أكثر من غيره وضع الشعب الذي قامت من أجله، ولا يمكن اجتماع القوى الخاصة من غير اجتماع جميع العزائم.والقانون على العموم، هو الموجب البشري ما سيطر على أمم الأرض طرا، ولا ينبغي للقوانين السياسية والمدنية في كل أمة أن تكون غير الأحوال الخاصة التي يطبق عليها هذا الموجب البشري؟ ويجب أن تكون هذه القوانين من اختصاصها بالأمة التي وضعت في سبيلها، ما يكون من الاتفاق العظيم معه إمكان صلاح قوانين أمة لأمة أخرى.ويجب أن تكون هذه القوانين موافقة لطبيعة ولمبدأ الحكومة القائمة، أو التي يراد إقامتها، وذلك سواء عليها أكانت موجدة لها كما هو أمر القوانين السياسية، أم كانت حافظة لها كما هو أمر القوانين المدنية.ويجب أن تكون تلك القوانين خاصة بطبيعة البلد، خاصة بالإقليم البارد أو الحار أو المعتدل، وبطبيعة الأرض وموقعها واتساعها، وبجنس حياة الأمم أو الزراع أو الصائدين أو الرعاة، ويجب أن تناسب درجة الحرية التي يمكن أن يبيحها النظام، ودين الأهلين وعواطفهم وغناهم وعددهم وتجارتهم وطبائعهم ومناهجهم، ثم يوجد لتلك القوانين صلات فيما بينها، صلات بأصلها وبمقصد المشترع وبنظام الأمور التي قامت عليها، فيجب أن ينظر إليها من جميع هذه الأغراض. عن السيرة ولد شارل لوي دي سيكوندا، المعروف باسم مونتيسكيو، في بلدة لابريد قرب مدينة بوردو جنوب غرب فرنسا، عام 1689، ونشأ في عائلة أرستقراطية غنية، وتلقى تربية مسيحية.التحق بأكاديمية بوردو ودرس علوم الفيزياء والرياضيات والفسيولوجيا والجيولوجيا، وقرأ نظريات نيوتن عن نظام الطبيعة، ثم درس القانون، قبل أن يتفرغ للفلسفة والدراسات السياسية وعلومها.والد شارل مونتسكيو كان من طبقة النبلاء، وعمل كبيراً للقضاة، وحين مات ترك لابنه، الذي كان في الرابعة والعشرين عندذاك، ثروة طائلة، استثمرها مونتسكيو فيما بعد في أبحاثه.بعد وفاة الأب بعام، دخل مونتسكيو برلمان بوردو كعضو وقاضٍ، ثم ورث عن عمه فيما بعد ثروته ومنصبه كرئيس للبرلمان.فقد مونتسكيو بصره كله تقريباً في السنوات الأخيرة من حياته، وتوفي عام 1755، عن ستة وستين عاماً قضى معظمها في البحث والكتابة، إلى جانب أعمال السياسة. من أقوال مونتسكيو * تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين.* الحرية هي الحق في أن تعمل ما يبيحه القانون.* الحرية خير يمكننا من التمتع بسائر الخيرات.* لا يجب أن نبكي لموت أصدقائنا، إنها رحمة أن نفقدهم بالموت، ولا نفقدهم وهم أحياء.* يجب أن نبكي حين يولد الناس، لا حين يموتون.* الطاغية هو ذلك الذي يقطع الشجرة لكي يقطف ثمرة.* العقل أنبل وأكمل وأبدع حاسة يملكها الإنسان. * المطالعة هي أن تحظى بساعات من المتعة بدلاً من ساعات من السأم.
مشاركة :