غواية الذاكرة في رواية «بقايا اليوم»

  • 6/9/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

سبق أن كرَّم الكاتب الفرنسي باتريك موديانو بمنحه جائزة «نوبل» كونه مُتَمكناً من الحفر داخل أقبية الذاكرة والولوج نحو البقع المُظلمة، إذ يدور مُعظم أعماله حول ما تعلق بذاكرته من حقبة الاحتلال النازي لفرنسا. والاهتمام بالذاكرة هو ما يجمع بين صاحب «مستودع الطفولة» وبين الكاتب البريطاني من أصل ياباني كازو إيشيغور، فهو اتخذَ من الذاكرة عدسة كبيرة يرى من خلالها الذوات الإنسانية وانعكاسات تجربة ماضي الشخصيات التي ترحلُ في تلافيف أيامها مُستعيدة لحظات مُفعمة بالعاطفة والمشاعر المُلتبسة، إذ ذاك يتبينُ زيف الشعور الواهم بالراحة لدى هؤلاء المندمجين في دوامة الواجبات الروتينية. وهذا الجانب هو ما أشارت إليه لجنة جائزة نوبل في عالم مؤلف «فنان من العالم الطليق» عندما أعلنت اسم ابن ناغازاكي فائزاً بنوبل للآداب 2017 . تأتي رواية «بقايا اليوم» التي فازت بجائزة البوكر البريطانية 1989 لتكشفَ خصوصيات صنعة الرواية في أعمال صاحب «العملاق المطمور» باتريك موديانو، إذ تقابلُ رحلة رئيس خدم «ستيفنس»، الذي مارس والده المهنة نفسها، إلى مدبرة القصر «مس كنتون» بعدما يتلقى منها رسائل تعبرُ عن حنينها إلى أيام اشتغلت بجواره، عودة في تشعبات الذاكرة والتوقف عند ما يعتبرهُ رئيس خدم لحظة فارقة في حياته المهنية، كما يروم من خلال هذا السرد المُنساب إبانة عن إخلاصه لمخدومه «لورد دارلنغتون». فالأخير يبدوُ مما يحكيه رئيس الخدم صاحب النفوذ بحكم موقعه. كان عسكرياً في الحرب العالمية الأولى واتصفت شخصيته بالنبل والكرم، لذا يحاول تخفيف الشروط المجحفة التي فرضت على ألمانيا وفقاً لبنود اتفاقية «فرساي»، ولا تتوقف محاولاته لتحقيق ما يراه صحيحاً للتعامل مع واقع ما بعد الحرب. غير أن ذلك يثير حوله زوبعة من الشبهات في الصحافة، وعلى إثر هذا الهجوم والاتهامات تتأزم صحته ويموت. وبذلك لا يكون السردُ مجردَ بوح ذاتي بل يشملُ أبعاداً سياسية واجتماعية، وما شاع من تقاليد في وسط الطبقة الأرستقراطية، وتبرزُ طبائع التكوين الياباني في أسلوب «كازو إيشغورو» لما يعرضه من الاهتمام بوصف الطبيعة بطريقة شيقة. بين جدران قصر يسردُ الراوي من خلال ضمير المتكلم ما عاشهُ بين جدران قصر «دارلنغتون هول»: «كان من المزايا التي أتاحها لي عملي أني رأيتُ أفضل ما في إنكلترا بين هذه الجدران وعلى مر السنوات». وعندما ينتقلُ هذا المكان إلى عهدة السيد الأميركي «فراداي» لا يتغير موقع سيد الخدم ويظلُ مُلتصقاً بفضاء المكان، مُنصهراً بشخصيته في المهنة حيث لا وجود لكينونة هذا الشخص خارج الإطار المهني، ولا أمر يشغله غير ترتيب القصر وتوفير الخدمات لأسياده وترشيح مستخدمين جدد لـ«فراداي». لذلك عندما يقترحُ عليه السيد الأميركي القيام برحلة في إنكلترا، لا يأخذ ستيفنس الأمر إلا وفقاً لمنطق مهني، إذ أراد جس نبض «مس كنتون» حول رغبتها في العمل ضمن طاقم القصر، إذ ذاك يتمكن مع وجودها من وضع خطة متكاملة لـ«دارلنغتون هول». إذاً، لا يوجدُ دافع آخر لإعادة النظر في اقتراح «فراداي» غير محاولة استعادة مدبرة القصر. يلاحظُ من مدخل الرواية أن رئيس الخدم يحسبُ أموره بدقة بما فيها انتقاء البدلة التي يرتديها في السفر، مع التأكد من مدخراته. أكثر من ذلك، يعتمدُ على كتب «مس سيمونز» التي تضمُ مواصفات لمناطق معينة في إنكلترا، إذ يذكرُ سيد الخدم مراجعته تلك الأجزاء التي تتناول طبيعة ومباهج «ديفون»، «كورنوول» التي سافرت إليها «مس كنتون»، وهذه الإشارة تكشفُ ما هو كامن في أعماق شخصية «ستيفنس» من مشاعر وإعجاب بزميلة الشغل ولا تتبين حقيقة ذلك الأمر إلا في الفصل الأخير. كما ذكرنا أعلاه، تأتي رحلة «ستيفنس» إلى كورنول بموازاة استعادة تفاصيل ذكرياته من مقتل أخيه في أفريقيا إلى انضمام والده إلى القصر، ثُم مشهد رحيله. كذلك يتوقف عند تاريخ مغادرة مدبرة القصر بعد زواجها. وهكذا تتوالى المشاهدُ والأحداث في أعطاف الرواية. تستغرقُ الرحلة ستة أيام بينما ما يغطيه العملُ يبدأُ من عشرينيات القرن الماضي إلى منتصف الخمسينات. ندوب ما بعد الحرب على الرغم من تفادي الكاتب الانسياق وراء وصف مشاهد الحرب وما يستتبعهُا من خسائر في مختلف المستويات الحياتية، فإن ذلك لا يعني عدم متابعة ندوب ما بعد الحرب. كذلك تستشفُ نوعاً من التعاطف والتضامن مع آراء اللورد «دارلنغتون» الذي لا يروق له ما يعيشُ فيه الألمان من أوضاع مزرية، إذ يوظف نفوذه لانعقاد مؤتمر في سنة 1922 يجمع مندوبين من أميركا وفرنسا. هنا يدور نقاش ساخن بين اللورد و«مستر لويس»، فالأخير يتهم الأول بالسذاجة مقتنعاً بأن مُضيفه ليس إلا رجلاً كلاسيكياً لطيفاً. غاية المؤلف من إيراد هذه المشاهد الحوارية عرض وجود الاختلافات بين طبائع الأوروبيين والأميركيين، وهذا ما يلمح إليه أيضاً في سياق الحديث عن سلوكيات الموظفين الذين لا يكفون عن المزاح مع أسيادهم في أميركا وما يحرصُ عليه الإنكليز من الحرفية والصرامة، وما يلفت النظر في حياة اللورد هو وصم شخصيته بالخيانة والتورط في التعامل مع النازيين كما تُنسب إليه محاولات لإقناع ملك بريطانيا بزيارة ألمانيا، ويحملُ ستيفنس صحيفةً لا يذكر اسمها مسؤولية تغذية هذه الإشاعات ما يتوصل إليه المتلقي من خلال متابعة ما يحكيه سيد الخدم عن سيده أنَّ ابن صديق اللورد مستر كاردينال الذي ينشر مقالات في الصحف هو من يزخمُ هذه الحملة، وبهذا يُفهمُ أن إيشغورو يؤثر الإيحاء وإشراك المتلقي في بناء الفرضيات، وتأويل العبارات والجمل السردية، تتسلسلُ ذكريات ستيفنس، وتتقاطعُ في فضاء سردِ الأزمنةُ إذ تتواردُ أسماء شخصيات جديدة، ولعلَّ ما يمرُ على سيد الخدم في قرية موسكو مي من أجمل مقاطع الرواية إذ يخفُ حضور ستيفنس كونه راوياً ويصبحُ عنصراً من مشهد فكاهي حيثُ يسألُه أهل القرية عن ونستون جرجل، وانتوني إيدن، وينحو الحوار منحى فلسفياً حول الفرق بين الكرامة وجنتلمان، إلى أنَّ يدرك الطبيب ريتشارد كارلسلي بأنَّ ضيفهم أرغم على تقمص شخصية غير شخصيته الحقيقية، ويؤدي دوراً لا يناسبه. آخر مشهد وفق صاحب «الذي لا عزاء له» في بناء المشهد الأخير فهو شأنه شأن الروائيين الكبار أرجأَ عرض فكرة الرواية إلى اللحظات التي تجمع بين «مس كنتون» وستيفنس. يذكر أن هذه المقاطع لا تنفصل أيضاً عن التقنية الاسترجاعية، إذ يستذكرُ سمينس بعد مرور يومين على لقائه مدبرة القصر السابقة، ما دار بينهما من حديث بينما هو يترقّبُ في مدينة وايموث حلول المساء على اللسان الساحلي، تنفتحُ ثغرة لمعرفة نمط حياة كنتون إذ ستصبح جدة مؤمنةً بأن الحب يعتمدُ على التعود. لم يتنبهْ سيد الخدم لشخص جالس بجانبه إلا بعد مضي الوقت. ينتظر الرجلُ العجوز بدوره مشاهدة المساء، مؤكداً أن نهاية اليوم هي وقت رائع. هنا يحمل المساء دلالة رمزية إلى مرحلة الكهولة من العمر. ويُذكر في هذا المقام أن رواية «بقايا اليوم» تغصّ بشخصيات وأحداث محملة برؤى وأفكار عميقة.

مشاركة :