الإمام محمد عبده يكتب: الإنسان عالم صناعي 3

  • 6/10/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

«إنَّ فى ذلك لذكرىَ لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيدٌ»خلق الله الإنسان عالما صناعيا، ويسر له سبيل العمل لنفسه، وهداه للإبداع والاختراع، وقدر له الرزق من صنع يديه، بل جعله ركن وجوده ودعامة بقائه، فهو على جميع أحواله من ضيق وسعة، وخشونة ورفاهة، وبيد وحضارة صنيعة أعماله، أقواته من معالجة الأرض بالزراعة، أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما يقيه الحر والبرد والوجى من عمل يديه نسجا أو خصفا، واكتانه ومساكنه ليست إلا مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يتغنمه فيه من دواعى ترفه ونعيمه إنما هى صور أعماله ومجالى أفكاره، ولو نفض يديه من العمل لنفسه ساعة من الزمان وبسط كفيه للطبيعة، ليستجديها نفسا من حياة لشحت به عليه بل دفعته إلى هاوية العدم، وهو فى صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذ يثقفه وهاد يرشده، فكما يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته يعمل ليعلم كيف يعمل وليقتدر أن يعمل، فصنعته أيضا من صنعه فهو فى جميع شئونه الحيوية عالم صناعى كأنه منفصل عن الطبيعة بعيد من آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل، هذا هو الإنسان فى مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه.دعه فى هذه الحالة وخذ طريقا من النظر إلى أحواله النفسية، من الإدارك والتعقل والإخلاص والملكات والانفعالات الروحية، تجده فيها أيضا عالما صناعيا، شجاعته وجبنته، جزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه، عفته وشرهه، وما يشابهها من الكمالات والنقائص جميعا تابع لما يصادفه فى تربيته الأولى وما يودع فى نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربى بينهم مرامى أفكاره ومناهج تعقله ومذاهب ميله ومطامح رغباته ونزوعه إلى الأسرار الإلهية أو ركونه إلى البحث فى الخواص الطبيعية وعنايته باكتشافه الحقيقة فى كل شيء أو وقوفه عند بادئ الرأى فيه وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية إنما هى ودائع اختزنها لديه الآباء والأمهات والأقوام والعشائر والمخالطون، أما هواء المولد والمربى ونوع المزاج وشلل الدماغ وتركيب البدن وسائر الغواشى الطبيعية فلا أثر لها فى الأعراض النفسية والصفات الروحانية، إلا ما يكون فى الاستعداد والقابلية، على ضعف فى ذلك الأثر، فإن التربية وما ينطبع فى النفس من أحوال المعاشرين وأفكار المثقفين تذهب به وكأن لم يكن أودع فى الطبع. نعم إن أفكارا تتجدد، ومعقولات من أخرى تتولد، وصفات تسمو، وهمما تعلو، حتى يفوق اللاحقون فيها السابقين ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه أنه ثمرة ما غرس ونتيجة ما كسب فهو مصنوع يتبع مصنوعا، فالإنسان فى عقله وصفات روحه عالم صناعي.إن الدين وضع إلهى ومعلمه والداعى إليه البشر، تتلقاه العقول عن المبشرين والمنذرين فهو مكسوب لمن لم يختصهم الله بالوحي، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة والتعليم والتلقين وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب ويرسخ فى الأفئدة وتصطبغ النفوس بعقائده وما يتبعها من الملكات والعادات وتتمرن الأبدان على ما ينشأ عنه من الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة على الأفكار وما يطاوعها من العزائم والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها.الديانة المسيحيةإن الديانة المسيحية بنيت على المسألة والمياسرة فى كل شيء، وجاءت برفع القصاص وإطراح الملك والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها، وترك أموال السلاطين، والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية بل والدينية، ومن وصايا الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر».ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد، وهى فانية، والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهى لله وحده. فمن يقف على مبان هذه الديانة ويلاحظ ما قلنا من أن الدين صاحب الشوكة العظمى على الأفكار مع ملاحظة أن لكل خيال أثرا فى الإرادة يتبعه حركة فى البدن على حسبه، يعجب كل العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمى المنتسبين فى عقائدهم إليه، فهم يتسابقون فى المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورقة العيش فيها، ولا يقفون عند حد فى استيفاء لذاتها، ويسارعون فى افتتاح الممالك والتغلب على الأقطار الشائعة ويخترعون كل يوم فنا جديدا من فنون الحرب، ويبدعون فى اختراع الآلات الحربية القاتلة، ويستعملها بعضهم فى بعض، ويصولون بها على غيرهم، ويبالغون فى ترتيب الجيوش وتدبير سوقها فى ميادين القتال، ويصرفون عقولهم فى إحكام نظامها حتى وصلوا غاية صار بها الفن العسكرى من أوسع الفنون وأصعبها، وإن أصول دينهم صارفة لعقولهم عن العناية بحفظ أملاكهم فضلا عن الالتفات إلى طلب غيرها.الديانة الإسلاميةأما الديانة الإسلامية فقد وضع أساسها على طلب الغلبة الشوكة والافتتاح والعدة ورفض كل قانون يخالف شريعتها ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها، فالناظر فى أصول هذه الديانة ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل، يحكم حكما لا ريبة فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية فى العالم، وأن يسبقوا جميع الملل إلى اختراع الآلات القاتلة وإتقان العلوم العسكرية والتبحر فيما يلزمها من الفنون كالطبيعة والكيمياء وجر الأثقال والهندسة وغيرها.ومن تأمل فى آية: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» أيقن أن من صبغ بهذا الدين فقد صبغ بحب الغلبة وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل له سبيلها والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية فضلا عن الاعتصام بالمنعة والامتناع من تغلب غيره عليه، ومن لاحظ أن الشرع الإسلامى حرم المراهنة إلا فى السباقة والرماية انكشف مقدار رغبة الشارع فى معرفة الفنون العسكرية والتمرن عليها، ولكن مع كل ذلك تأخذه الدهشة من أحوال المتمسكين بهذا الدين لهذه الأوقاف إذ يراهم يتهاونون بالقوة ويتساهلون فى طلب لوازمها وليست لهم عناية بالبراعة فى فنون القتال، ولا فى اختراع الآلات.حتى فاقتهم الأمم سواهم فيما كان أول واجب عليهم، واضطروا لتقليدها فيما يحتاجون إليه من تلك الفنون والآلات، وسقط كثير منهم تحت سلطة مخالفيهم واستكانوا لها ورضخوا لأحكامها ومن وازن بين الديانتين حار فكره كيف اخترع مدفع الكروب والمتراليوز وغيرهما بأيدى أبناء الديانة الأولى قبل الثانية؟ وكيف وجدت بندقية مرتين فى ديار الأولين قبل وجودها عند الآخرين؟ وكيف أحكمت الحصون ودرعت البواخر وأخذت مغالق البحار بسواعد أهل السلامة السلام دون أهل الغلبة والحرب؟.هل نبذ كل دينه؟هل نبذ أهل كل دين عقائد دينهم من أجيال بعيدة؟ هل اقتصر النصارى فى دينهم على الأخذ بشريعة موسى واقتفاء سيرة يوشع بن نون؟ هل تخللت بعض آيات الإنجيل من حيث يدرى ولا يدرى بين الخطب والمواعظ التى تتلى على منابر المسلمين، أو ألقى شيء منها فى أمانى معلميهم وناشرى شريعتهم عندما يتربعون فى محافل دروسهم؟ هل تبدلت سنة الله فى الملتين؟ هل تحول مجرى الطبيعة فيهما؟ هل استبدت الأبدان فيهما على الأرواح أو وجد للأرواح دبير سوى الفكر والخيال أو انفلتت الأفكار من سلطة الدين، أو تغاصت النفوس عن الانتعاش بنقشته، وهو أول حاكم عليها وأقوى مؤثر فيها؟ هل تتخلف العلل عن معلوماتها؟ هل تنقطع النسب بين الأسباب ومسبباتها؟ ماذا عساه أن يرشد العقول إلى كشف المساتير وحل المعميات؟ أينسب هذا إلى اختلاف الأجناس - وكثير من أبناء الملتين يرجعون إلى أصول واحدة ويتقاربون فى الأنساب الدانية - أينسب هذا إلى اختلاف الأقطار، وكثير من القبيلتين يتشابهون فى طبائع البلدان ويتجاورون فى مواقع الأمكنة؟ ألم يصدر من المسلمين وهم فى شبيبة دينهم أعمال بهرت الأبصار وأدهشت الألباب؟ ألم يكن منهم مثل فارس والعرب والترك الذين دوخوا الممالك واستولوا على كرسى السيادة فيها، كان للمسلمين فى الحروب الصليبية آلات نارية أشباه المدافع، فزع لها المسيحيون وغابوا عن معرفة أسبابها ذكر ملكام سرجم (إنجليزي) فى تاريخ الفرس أن محمود الغزنوى كان يحارب وثنيى الهند بالمدافع، وكانت هى السبب فى انهزامهم بين يديه سنة (٤٠٠) من الهجرة، وما كان المسيحيون لذلك العهد يعرفون شيئاً منها، فأى عون من الدهر أخذ بأيدى الملة المسيحية فقدهما إلى ما لم يكن فى قواعد دينها؟ وأية صدمة من صدماته دفعت فى صدور المسلمين فأخرتهم عن تعاطى الوسائل لما هو أول مفروض فى دينهم. مقام للحيرة وموضع للعجب، ويظن أنه لا بد لهذا التحالف من سبب، نعم وتفصيله يطول ولكن نجمل على ما شرطنا:إن الدين المسيحى إنما امتد ظله وعمت دعوته فى الممالك الأوروبية من أبناء الرومانيين، وهم على عقائد وآداب وملكات وعادات ورثوها عن أديانهم السابقة وعلومهم وشرائعهم الأولي، وجاء الدين المسيحى إليهم مسالما لعوائدهم ومذاهب عقولهم، وداخلهم من طرق الإقناع ومسارقة الخواطر لا من مطارق البأس والقوة فكان كالطراز على مطارفهم، ولم يسلبهم ما ورثوه عن أسلافهم، ومع هذ فإن صحف الإنجيل الداعية للسلامة والسلم لم تكن كسابق العهد مما يتناوله الكافة من الناس، بل كانت مذخورة عند الرؤساء الروحانيين، ثم إن الأحبار الرومانيين لما أقاموا أنفسهم فى منصب التشريع وسنوا محاربة الصليب ودعوا إليها دعوة الدين التحمت آثارها فى النفوس بالعقائد الدينية وجرت منها مجرى الأصول، ولحقها على الأثر تزعزع عقائد المسيحية فى أوروبا، وافترقوا شيعا وذهبوا مذاهب تنازع الدين فى سلطته، وعاد وميض ما أودعه أجدادهم فى جراثيم وجودهم ضراما، وتوسعوا فى فنون كثيرة، وانفسح لهم مجال الفكر فيها، وكانت براعتهم فى الفن العسكرى واختراع آلات الحرب والدفاع مساوقة لبراعتهم فى سائر الفنون.أما المسلمون فبعد أن نالوا فى نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا من كل كمال حربى حظا، وضربوا ف يكل فخار عسكرى بسهم، بل تقدموا سائر الملل فى فنون المقارعة وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه، وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر، وضربت فى الأذهان حتى اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله الزنادقة فيما بين القرن الثالث والرابع وما أحدثه السوفسطائيون الذين أنكروا مظاهر الوجود وعدوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كذبة النقل من الأحاديث، ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويثبتونها فى الكتب، وفيها السم القاتل لروح الغيرة، وأن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفا فى الهمم وفتورا فى العزائم، وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك لم يرفع تأثيره عن العامة، خصوصا بعد حصول النقص فى التعليم والتقصير فى إرشاد الكافة إلى أصول دينهم الحقة، ومبانيه الثابتة التى دعا إليها النبى وأصحابه، فلم تكن دراسة الدين عن طريقها القويم إلا منحصرة فى دوائر مخصوصة، وبين فئة ضعيفة. لعل هذا هو العلة فى وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم، وهو الذى نعانى من عنائه اليوم مما نسأل الله السلامة منه. من كتاب «الإسلام بين العلم والمدنية» للإمام محمد عبده

مشاركة :