رغم تجرع تركيا للدواء المر برفع سعر الفائدة الأساسي مرتين خلال 10 أيام ليصل إلى مستويات فلكية عند 17.75 بالمئة، إلا أن ذلك العلاج المتأخر يهدد بتفاقم مشاكلها والسقوط في حالة من الركود. فبعد أن وصل الاستثمار في الأصول التركية في الفترة الأخيرة إلى مستويات حرجة، قوبل قرار البنك المركزي في 7 يونيو برفع سعر الفائدة التركية بواقع 125 نقطة بترحيب المستثمرين. وتم اعتبار خطوة البنك المركزي مؤشرا على التحرك أخيرا وبشكل جاد لمواجهة التضخم المرتفع جدا في تركيا، الذي وصل إلى 12.2 بالمئة في مايو مقارنة بنحو 10 بالمئة في بداية العام وهو مرشح لمواصلة الارتفاع في الأشهر المقبلة. خلال الفترة بين أواخر أبريل والسابع من يونيو، تم رفع أسعار الفائدة الأساسية 5 بالمئة، لكن ذلك جاء متأخرا بعد عجز غير مبرر من البنك المركزي، من المتوقع أن تمتد آثاره إلى ما بعد الانتخابات المقررة في 24 يونيو. الآن وفي ظل النيران المتقدة في أسواق المال، حان الوقت لتقييم حجم الضرر، بعد أن أصبحت الشكوك تحاصر مصداقية البنك المركزي الذي واجه كثيرا من الانتقادات على مدى السنوات القليلة الماضية. وتفجرت المشكلة من سعي الرئيس رجب طيب أردوغان للضغط من أجل تحقيق نمو اقتصادي قوي للغاية في ظل وفرة السيولة في الأسواق العالمية لكنه ارتكب أخطاء بالغة الخطورة في ما يتعلق بالإدارة الاقتصادية. لم تكن السياسة النقدية للمركزي سوى ضرب من المجاملة للرئيس من أجل تحقيق أهدافه. وقد تسبب الفشل في السيطرة على التضخم والتحول الكبير في الأسواق العالمية في انهيار الليرة. وأجبر ذلك حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يقوده أردوغان على تغيير طريقته والتحرك وفقا لضوابط السياسات المتعارف عليها عالميا. لكن من الضروري هنا توضيح أن ما أنقذ الموقف لم يكن تحرك محافظ البنك المركزي مراد جتين كايا لضبط السياسة النقدية، بل قرار رفع أسعار الفائدة الذي اتخذ في أرفع المستويات الحكومية بعد أن بات لا مفر منه. لقد حصل جتين كايا ومساعدوه على حرية الحركة. تبدو هذه الفكرة منطقية بالنظر إلى الارتفاع الكبير في نسب المخاطر في ما يتعلق بتركيا ومحدودية قدرة الليرة على التعافي. وجعل هذا الوضع المستثمرين يتشككون في طريقة إدارة الاقتصاد بعد الانتخابات في حال فوز أردوغان والتحول لتطبيق نظام رئاسي تنفيذي كامل تتولى السلطة فيه السيطرة الكاملة على كل شيء. في ما يتعلق بالتضخم، لا حاجة للإشارة إلى الضرر الذي أصاب التوقعات الاقتصادية جراء سنوات من السياسات النقدية غير الواضحة. لقد أدى انهيار الليرة وارتفاع أسعار النفط في ترجيح وصول التضخم إلى 15 بالمئة في الربع الثالث. ومن الواضح أن هناك ضررا كبيرا سيبقى أثره ليظل سعر الليرة عند نحو 4.5 مقابل الدولار، حتى بعد رفع أسعار الفائدة. والآن وبكل أسف، لا يمكن لأحد توقع تضخم يقل عن 13 بالمئة عند نهاية العام الحالي. مع دخول الاقتصاد في الركود في ظل أسعار الفائدة العالية، ستزيد حتما معدلات البطالة، وستقل الأجور مع معاناة الشركات تحت وطأة الديون ويرجح في ظل أسعار الفائدة البالغة 17.75 بالمئة وعائدات السندات البالغة 18.4 بالمئة أن ترتفع نسب الفائدة على الودائع، وهو أمر سيتسبب في زيادة معدلات الفائدة على الإقراض. ومن هنا تأتي أسباب الركود. سيكون منطقيا أن يتقلص الناتج المحلي الإجمالي لتركيا في الربع الثالث. ومن المستبعد على نطاق كبير أن تؤدي نتائج الانتخابات إلى تغيير التوقعات الخاصة بالنمو على المدى القصير، سواء فاز حزب العدالة والتنمية وأردوغان وتحقق للرئيس ما يريده بصلاحيات تنفيذية أوسع نطاقا، أو فازت المعارضة بالانتخابات البرلمانية في سيناريو من شأنه الدفع من أجل حصول مواءمات في السياسات الاقتصادية. يبدو الركود في العام المقبل هو السيناريو الأقرب للتحقيق، هذا إن لم يكن ركودا مصحوبا بتضخم. وستكون لانهيار الليرة وفوائد الإقراض المرتفعة للغاية تداعيات كارثية على الحسابات المالية للدولة وعلى قطاع الشركات. ومع دخول الاقتصاد في الركود في ظل أسعار الفائدة العالية، ستزيد حتما معدلات البطالة، وستقل الأجور مع معاناة الشركات تحت وطأة الديون. وتؤكد البيانات أن الكثير من الشركات الكبيرة تسعى للتفاوض مع البنوك لإعادة هيكلة ديونها. وستطول القائمة لتشمل مختلف قطاعات الأعمال. وسيعني هذا ارتفاعا جديدا في أسعار الإقراض ومزيدا من الانكماش للشركات “في بيئة تعاني معدلات تضخم عالية ونموا منخفضا”. وأخيرا وليس آخرا هناك العبء الثقيل لأسعار الفائدة على الحسابات المالية للدولة. وسيؤدي التراجع الاقتصادي وانخفاض حصيلة الضرائب وربما المزيد من الإعفاءات الضريبية إلى اتساع عجز الموازنة. كما أن الأثر الصادم لأسعار الصرف على الحسابات المالية سيزيد الضغوط على المجالس البلدية التي تواجه بالفعل ديونا كبيرة بسبب أسعار تغيير العملات الأجنبية منذ عشر سنوات، وسيكون الضغط أكثر وضوحا حين تجري الانتخابات المحلية عام 2019. في الخلاصة سيستند “الاستقرار” الهش قصير الأجل الذي تحقق لتركيا إلى معدلات فائدة مرتفعة. ولا توجد حتى الآن أي مؤشرات على تحسن السياسة المالية خلال الأشهر المقبلة. ولتجنب مثل تلك الصدمات القوية هناك حاجة لرؤية اقتصادية جديدة وواضحة وذات مصداقية ولبرنامج إصلاح قوي يبدأ تطبيقه فورا بعد انتخابات 24 يونيو. كما لا بد من الإشارة إلى ضرورة اتخاذ قرارات جريئة للتعامل بفعالية مع التزامات الدين الخارجي للشركات التركية على وجه الخصوص، والذي تبلغ قيمته الإجمالية 226 مليار دولار.
مشاركة :