يخيم على العالم طيف تلبسه، هو طيف ما بعد الحقيقة. وبرز هذا الطيف في 2016، وحلّ في «قاموس أوكسفورد»، المعروف برصانته الباردة، ولم ينفك يعذب، مذ ذاك، ضمير الديموقراطيين القلق. فـ «بوست تروث» كانت كلمة العام الغالبة، والمقتحمة عنوة الوقائع السياسية اليومية للدلالة على الظروف التي «تقلص أثر الوقائع الموضوعية» في بلورة الرأي العام قياساً على (أثر) مناشدات الانفعال والآراء الشخصية»، على قول القاموس العتيد. والألفاظ التي يتوسل بها التعريف: الواقعة والرأي، الحقيقة والانفعال، تردد أصداء الحيرة والحرج اللذين يتخبط عصرنا فيهما. والمؤرخ، حين يدعى إلى تخليص خيوط هذه الكبكبة المتداخلة، قد لا يسعه أن يستل إبرته من الخليط. ولكن ما معنى ما بعد الحقيقة؟ هل تدل على سياسة «بوست- تروث بوليتيكس» أم على حقبة «بوست تروث إيرا»؟ ويوهم خلط العبارتين، وحملهما على المرادفة التامة، بأن ثقافة الحكم هذه مقبلة حتماً على نصر غير منازع. وهذا أمر مشكوك فيه وليس ثمة ما يحتمه. فلا ريب في أن للكذب السياسي تاريخاً مديداً عرفه جوناثان سويفت في 1733، بـ «فن إقناع الشعب بواسط مختلقات ضرورية». ومصدر الجدة هو ما يسميه الفيلسوف الأميركي هاري فرنكفورت «بولشيت»، وترجمته التقريبية هي في العامية، الهراء أو «تطيير التماسيح» (على مثال «عنزة ولو طارت») أو «التفشيط». و «التفشيط» يجرح الحقيقة فوق أذى الكذب. فالكذاب حين ينطق بالكذب إنما يريد الانحراف عمداً عن الحقيقة، وهو يعلم ما الحقيقة التي يدلس عليها، على خلاف المفشط (بولشيتر) الذي لم يعد يعرف ما حظ ما يقول، ويزعم من الحقيقة. فالمخادع المرائي الذي يطلق التفشيطة في التداول لا يأبه أصلاً لحقيقة قوله. وهو لا ينتظر تصديق قوله، ولا حمله على الصحة، وما يسعى فيه هو أن يحمل هو شخصياً على محمل الثقة، فلا يبقى ما يستعمل في سبيل التشكيك فيه أو الطعن عليه. ولا يستثنى من هذا الواقع نفسه. وهو يرفع في وجه الواقع «الوقائع البديلة» (ألتيرناتف فاكتس)، ويعارضه بها. وهذه التسمية نابية: فالواقعة إما وقعت (حصلت) وإما لم تقع، ولا بديل من أحد الحدين. وتقود اللامبالاة بالحقيقة إلى تشكك قاطع، وإلى هذيان لا قيد عليه، فلا يبصر الهاذي فرقاً بين الأشياء العينية والملموسة وبين الخيالات. وترجمة «فايك نيوز» بـ «الأخبار الكاذبة» قد يعيد إلى البعد الديموقراطي الذي يلازم الكفاح العقلاني. ولكن الشتيمة «الترامبية» طاولت، على رغم شتيمتها وتجنيها، مناقشات المؤرخين. فهذه هي حال عالمنا: يترك المؤرخين وطوائف من الاختصاصيين والصحافيين وممثلي الأسلاك الوسيطة تائهين وحائرين جراء إنكار وساطتهم في إنشاء وبلورة مقال في الحقيقة. ولكن إذا دعي هؤلاء إلى استئناف الخدمة على الجبهة، فما هي قضيتهم؟ ليست، قطعاً، قضية حقيقة التاريخ. فلا يجهل أحد بَعد أن الانقياد لقوانين التاريخ وهم. والقانون الوحيد الذي لم تكذبه التجربة هو عصيان التاريخ كل توقع أو قانون. ولن يتمسك المؤرخون بدور ينصبهم سادة الحقيقة وأولياء أمرها. والسبب في ذلك هو علمهم بأن الإخفاق هو على الدوام نصيب من يحاولون استباق تعاسات المستقبل بواسطة معرفة الماضي. فيتجنب معظمهم الظهور المضحك بمظهر من يزعم أداء دور أستاذ مدرسة يدرس مصائر الأمة. ويبقى طموح معتدل يترتب على مزاولة المنهج، ويقضي بأن الحقيقة ليست موضوع تقرير ولا هي ذخيرة تمتلك، وهي ليست كنزاً دفيناً يعثر عليه المؤرخ ولا امتيازاً يتباهى به على رؤوس الأشهاد (أو في السر). فهي الغرض الأخير الذي يسعى فيه فكر يتولى إنشاء معارف ويرعى تداولها وتناولها الاجتماعيين. والقول إن نازع التأريخ العميق يحمله على طلب الحقيقة ليس بالشيء القليل. وهو مرادف القول إن السرد التاريخي لا يسري عليه نظام التحقيق الذي يسري على المقالات التي تستحضر الماضي، أكانت أيديولوجية أو سياسية أم استعادية أم أدبية أم فنية، أو تلك التي تتفرع عن طريق استعمال التاريخ الاجتماعية، وكلها مشروعة في ميزان الديموقراطية. وهذا لا يوجب مقالة في طبيعة الحقيقة الفلسفية نفسها، ويبقي هذه الطبيعة بعيدة من متناول المنهج التاريخي. ولا يعود إلى المؤرخ، على وجه القطع، أن يجزم في حقيقة الظواهر التي يدرسها. ولنمثل على هذا الرأي بالتاريخ الثقافي. فهو، حين يتناول المعتقدات القديمة، يمسك عن التساؤل عن حقيقتها. ويقتصر على السؤال «عما إذا كان لأسلافنا علل وافية دعتهم إلى اعتبار حقيقة ما حسبوه حقيقياً»، على قول كونتين سكينر» (الحقيقة والمؤرخ، دار الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، 2012). وعلى هذا، لا يجانب الفلاسفة الصواب حين يتمسكون بتمييز «الكون حقاً» من «الحمل على الحق، أو اعتقاده»، على نحو قول جاك بوفريس: فلا سبيل إلى صوغ تاريخ للحقيقة إلا شرط أن تكون هذه موضوع معرفة بها (بالحقيقة)، وشرط ألا تتولى هذه المعرفة إنتاج الحقيقة أو توليدها: ولا يجهل المؤرخ أن عليه هو إثبات حقيقة الواقعة، وأن هذه الحقيقة لا تسبق العملية التأريخية التي ترسيها على مسوغاتها. «الوقائع، هل تحسبون أنها قائمة على نحو الواقع الجوهري الذي دفنه الزمن على مراتب متفاوتة من العمق، وما على المؤرخ إلا إخراجها وتنظيفها وعرضها على معاصرينا في نور البصر الرائع؟»، بهذه الكلمات، ندد لوسيان فيفر، في 1948، بالتأريخ المدرسي الذي كان يرصف الوقائع على الرفوف على شاكلة الدمى والتماثيل (الحوليات- ليزانال»، 1948، عدد 3-1، استعيد في «حياة التاريخ»، روبير لافون، 2009). وجمع هذا الرأي الدفاع عن صفة التاريخ العلمية إلى الدفاع عن حرية المؤرخ. وحرية المؤرخ تلازم مسؤوليته. فتجييش القومية المنهجية في خدمة التعصيب والتمجيد الوطنيين للحرب العالمية الأولى، سدد إلى عمل التاريخ طعنة قاضية، كان لوسيان فيفر نفسه سبق إلى القول قبل 30 عاماً. وحَلِم مبتكرو المنهج التاريخي في أواخر القرن التاسع عشر بدمج حب الوطن في الدفاع عن الحقيقة. وبقي المنهج على حاله- فذهب شارل سيغنوبوس في 1901 إلى نفي ملابسة الصفة التاريخية الوقائع، فالتاريخي هو صفة معرفة الوقائع» («المنهج التاريخي وإعماله في العلوم الاجتماعية»- ولكن الحلم طوي. وانقلب كابوساً في أحيان أخرى. وفي أيار (مايو) 1978 أنهى بول فين كتابة عمله، «فوكو يقلب التأريخ رأساً على عقب». وهو تأريخ زعزع حقائق الفلسفة الأبدية وألقى بها في لجة دوامة نيتشوية. وكتب فين: «صار التاريخ تاريخاً لما سماه البشر حقائق، ولمنازعاتهم على هذه الحقائق». وحصل النزاع فعلاً، ولكن على جبهات منقلبة. ففي 29 كانون الأول (ديسمبر) 1978، نشرت صحيفة «لوموند» رأياً وقعه روبير فوريسّون وُسم بعنوان: «مسألة حجرات الغاز». وقارئ هذا المنبر اليوم قد لا يشعر للأسف بالاغتراب. فهو يبسط خطابة «نقد الأساطير» التي تحفل بها نظريات المؤامرة، ويحيل الشك المنهجي إلى ارتياب عام، ويدغدغ نازع المناقضة في «جيل الشباب الذين يرفضون الأفكار الرائجة من غير فحص يمتحنها» على ما جاء في التقديم المرتبك والمسموم الذي مهدت به الصحيفة للمنبر. وبينما كان برنامج الكتب الذائع الصيت «أبوستروف» يجمع في حلقة واحدة أعلام «التاريخ الجديد»، جاك لوغوف وجورج دوبي وإيمانويل لوروا لا دوري، في 2 شباط (فبراير) 1979، افتتح امتحان الإنكار (إنكار الإبادة أولاً) حقبة جديدة من حقبات علاقة التاريخ بالحقيقة. وقد يكون الحسبان أنها طويت، وأننا تخطيناها، خُلْفاً. وكان بيير فيدال – ناكيه ونادين فريسكو بين أوائل من سبروا دلالة الأزمة، فريسكو في «الأزمنة الحديثة» (أسسها جان- بول سارتر في 1945)، عدد حزيران (يونيو) 1980، في نص عميق واستشرافي، «مقومو الموتى»، وبيير فيدال– ناكيه باشر ما صار لاحقاً إحدى معارك حياته الكبيرة. فكتب رسالة أعرب فيها عن الأثر العميق الذي خلفته فيه قراءة كتاب ميشيل دي سيرتو «كتابة التاريخ» (1975): «نعلم اليوم أن المؤرخ يكتب، وينشئ المكان والزمان، حين هو في مكان وزمان (...). ولكن، أليس ضرورياً التمسك بهذه الفكرة العتيقة، «الواقع»، أي ما حصل فعلاً على قول رانك في القرن (التاسع عشر)؟ وأنا أدركت هذا الأمر إدراكاً حاداً في أثناء قضية فوريسون، المستمرة للأسف» («ميشال دي سيرتو»، في إشراف لوس جيار وآخرين، مركز جورج بومبيدو، 1987). فهل كان يقضي هذا بالتخلي عن كل خطو الفكر النقدي والانكفاء إلى مواقع وضعية؟ لا، أبداً. فالعود على بدء مستحيل، ونقد سلطة المتربعين في سدة الحقيقة لا عودة عنه، وهذا النقد من ميراث الأنوار. وليس ثمة ما في مستطاعه إضعاف قصد الحقيقة في التاريخ: لا شجرة الأنساب التي تقصى فوكو آثارها في موضوعات الجنون والعيادة والسجن والملذات... ولا إدراك دور السرد في العملية التأريخية. وعلى خلاف هذا، يحوز التأريخ أدوات جبه ما بعد الحقيقة وطيفها حين يضطلع في وقت واحد بمنهجه العلمي وأفقه النقدي وحماسته الأدبية. وكان ريمون آرون يقول إن التاريخ «حقيقي في نظر كل من يريدون حقيقته، أي من ينشئون الوقائع على مثال واحد ويستعملون المفهومات نفسها». ويترتب على هذا أن التاريخ لا يتحرر من هشاشته وليس في مستطاعه خلعها. والتشكيك في مصدر التغير المناخي الإنساني يدعو إلى تعميم ما قاله آرون في التاريخ على الفيزياء. * أستاذ كرسي تاريخ السلطات في أوروبا الغربية، القرن الثالث عشر (م)- القرن السادس عشر في الكوليج دي فرانس، عن «ليستوار» الفرنسية، أيار (مايو) 2018، إعداد منال نحاس شارك المقال
مشاركة :