أين الحقيقة في عالم ما بعد الحقيقة بقلم: كرم نعمة

  • 10/29/2016
  • 00:00
  • 37
  • 0
  • 0
news-picture

الحقيقة ترتدي أكثر من وجه، لكنها تغيب غالبا، إذا لم يكن هناك أساس مُتّفق عليه بشأنها فعندها سيكون من الصعب التوصّل إلى استنتاجات مستقرة ديمقراطيا، فالأكاذيب الصريحة ليس لها تأثير أو عواقب. العربكرم نعمة [نُشرفي2016/10/29، العدد: 10439، ص(18)] يرى جون ثورنهيل أننا نعيش ما أسماه “فقاعات الفلترة” لأن التكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي دمّرتا الحقيقة، ويكتب في صحيفة فاينانشيال تايمز “نحن نعيش في عالم ما بعد الحقيقة، حيث بإمكاننا تجاهل الحقائق التي لا تُعجبنا والاستفادة من أي سرد شخصي نرغب فيه”. شكوك ثورنهيل المشروعة بشأن ما بعد الحقيقة في وسائل الإعلام، يقابلها تفاؤل الكاتب سايمون جنكينز عندما وضع “تصورا” لمرحلة ما بعد الرقمية دون أن يلغي قيم القراءة التقليدية وطقوس زيارة المتاحف ودور العرض والمكتبات. فالعصر ما بعد الرقمي بالنسبة إلى جنكينز سيكون بمثابة معادل تاريخي لأزمنة الراديو والتلفزيون والفاكس والصحيفة الورقية وبعدها الإلكترونية، دون أن يقلل من مستقبل قيم القراءة الشائعة والاستماع والمشاهدة الحية للحفلات الموسيقية والغنائية. وفي خضم ذلك ترتدي “الحقيقة” أكثر من وجه، لكنها تغيب غالبا، إذا لم يكن هناك أساس مُتّفق عليه بشأن الحقيقة فعندها سيكون من الصعب التوصّل إلى استنتاجات مستقرة ديمقراطيا، فالأكاذيب الصريحة ليس لها تأثير أو عواقب. كذلك يلتقط ثورنهيل المفارقة في عصرنا، فالحقيقة- مهما كان تعريفها – لم يكن من السهل كشفها أو نشرها أكثر مما هو الحال الآن “البيانات موجودة في كل مكان، الحياة يُمكن توثيقها، المزاعم والمزاعم المُضادة يُمكن التحقق منها على الفور، التكنولوجيا ينبغي على الأقل أن تحمل جزءا من الحل”. لكن مثل هذه الفكرة عجز القائمون على تويتر عن الاتفاق عليها، جاك دورسي الرئيس التنفيذي لتويتر نفسه لم يتوصل مع فريق العمل معه إلى تعريف واحد لتويتر، إلا أن كلمات مثل “العالم الحي”، “جحيم تستهلك الوقت”، “حرية التعبير”، كانت ماثلة في أفكارهم، وأضيفت لها فكرة تويتر الطفل عند الكاتبة كايتلين موران، في محاولة للتعامل معه بعقلية الكبار المربية، وعدم محاسبته على عبثه اليوم على أمل أن ينضج بعد سنين ويتعلم المشي المستقيم والكلام المفيد. تويتر وفيسبوك تعريف لما يحدث الآن في العالم، لكنه ليس مثاليا، لأنهما متاحين كي تختلط فيهما الأصوات والآراء، كل واحد منا يقول كلمته ويمضي، إنهما خطوة إلى الأمام لا يمكن التراجع عنها وفق موران. وتغيب المعلومة بمواصفاتها الإعلامية في مواقع التواصل الاجتماعي عند جون همفريز الذي عرف كمحاور لا يقبل التردد مع كبار السياسيين على “بي بي سي”، فهو يرى في هذا الكم الهائل من المعلومات على تويتر وفيسبوك ليس أكثر من “كلام حانات” يتداوله الناس يوميا ولا يمكن التعويل عليه بأي حال من الأحوال، فحسب تعبيره “من يريد أن يعرف ما يفكر فيه الناس العاديون عليه مقابلتهم في حانة أو مقهى”. بعد كل ذلك كيف يتسنى لوسائل الإعلام الحصول على تعريف معاصر متفق عليه بشأن “الحقيقة” المتداولة في العصر الرقمي؟ ففقاعات الفلترة التي ذكرها جون ثورنهيل هي ما تلتقطه وسائل الإعلام من وسائل التواصل الاجتماعي بمسؤولية عالية، وتقدمها من دون حذر للجمهور اليوم. لقد انصاع الإعلام برمته إلى العصر الرقمي وأقر بأنه ليس المالك الوحيد للمعلومة، فكان عليه أن يستعين بـ”مروجي الحقائق” من المواطن الصحافي إلى المدونين والنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي بوصفهم مصدرا، لكنه فشل في استخلاص الحقيقة منهم بعد انتقاء القدر اليسير من هذا الكم الهائل من المعلومات، فلتر وسائل الإعلام وحساسيتها العالية لم تستطيعان إيجاد تعريف نسبي للحقيقة. لذلك يطالب جنكينز، بعدم الوقوع في خطأ إلغاء القديم من أجل التجربة الحية التي يبثها العصر الرقمي. فالرسائل النصية الهاتفية تمثل نافذة على العالم وليس بابا، والإدمان على الإنترنت يضعف التجربة العقلية في تدرجها، فيما يسعى الإنسان بطبعه إلى الرقي بذاته وعدم الوقوع أسيرا في واقع افتراضي. هذا الكاتب الذي أصدر أكثر من كتاب في النقد المعماري والسياسي وحاصل على جوائز صحافية، ليس من أعداء التكنولوجيا، فالإنترنت يعد أكبر مكافأة مبتكرة في حياة الإنسان، لكنه يرى أن العودة إلى الكياسة تبدو مبهجة، ويقول “لن أقبل بالقول إن الإنترنت سيدفع بأدمغتنا إلى الهرولة، بل هو يفوت علينا فرصة القدرة على قراءة جمل طويلة أو التعامل مع المعلومات المعقدة للغاية”. مثل هذا الكلام يقرّب التعريف بالحقيقة التي تتوق إليها وسائل الإعلام من أجل قرائها الأوفياء، ليس بالتخلي تماما عما يبثه الإنترنت، بل من أجل أن يكون الإنترنت خارطة طريق إلى الحقيقة، وليست الحقيقة بحد ذاتها. كاتب عراقي مقيم في لندن كرم نعمة :: مقالات أخرى لـ كرم نعمة أين الحقيقة في عالم ما بعد الحقيقة, 2016/10/29 لم تعد للجدران آذان, 2016/10/24 التلفزيون في العراق حاكم بأمر من؟, 2016/10/22 مع من نتكلم؟, 2016/10/17 صناعة الأخبار: أزمة داخل أزمة, 2016/10/15 أرشيف الكاتب

مشاركة :