نحن المستهلكون، وليست الأخبار الزائفة وحدها، السبب الرئيسي في شيوع مصطلح “ما بعد الحقيقة” لأن الحقيقة إن وجدت لا تحقق طموحاتنا الأنانية أو أقل منها، بينما ما بعد الحقيقة يعبر عمّا نكنّه للآخر وما يحقق التعريف الأناني للوطنية بالنسبة إلينا. سبق أن افترض الكاتب جون ثورنهيل بأننا نعيش "فقاعات الفلترة" لأن التكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي دمّرتا الحقيقة، وكتب في صحيفة فايننشيال تايمز معبّرا عن احتقاره لفيسبوك "نحن نعيش في عالم ما بعد الحقيقة، حيث بإمكاننا تجاهل الحقائق التي لا تُعجبنا والاستفادة من أي سرد شخصي نرغب فيه". ثمة جيوش إلكترونية تعمل اليوم لإشاعة الأخبار المزيفة تدار بعمل حكومي منتظم، تهدف إلى تشويه الآخر وإسقاط صورته في نظر الشعوب. وثمة فرق متخصصة في وسائل الإعلام تعمل على إعادة كتابة التاريخ المكتوب بطريقة ترضي مشروعها السياسي، وكأنها استعانت بالشهود من ذلك التاريخ الآفل. وهناك مجاميع أقل تعمل من تلقاء نفسها على إشاعة الأكاذيب من أجل طموح شخصي بغض النظر عن نوعيته. الأكاذيب لا تصنع نفسها بنفسها في العالم الرقمي، ثمة صناع مهرة وسذّج يقومون بذلك، المهرة يعملون على الفكرة المخاتلة والمحكمة من أجل تمرير أكاذيبهم، والسذّج من يرون الأكاذيب حقائق، ولسوء الحظ وهزالة الوعي هناك من يصدقها من دون أن يجهد نفسه بتفكير منطقي. أنتم جميعا تمتلكون عشرات الأمثلة على هواتفكم الذكية وبريدكم الإلكتروني، وأنا أيضا أمتلك مثل تلك الأمثلة لأدافع فيها عن فكرتي في الانحياز العقلي. ليس لأن الناس يزدادون غباء، فهذا أمر لا يمكن تقبله، مثلما لا يمكن تقبل أننا جميعا نشترك في إشاعة الكذب بوصفه حقيقة قائمة في عالم رقمي يدير حياتنا. سأكتفي بمثال من بين المئات التي تطفّلت على هاتفي الشخصي وبريدي الإلكتروني، أرى أنه معبر عما أعالجه في فكرة هذا المقال، فقد تداول عراقيون أكثر من غيرهم! قصة خرافية وكأنها حقيقة، وصدقوها بدافع الحاجة الماسة والعاجلة بالنسبة إليهم بحثا عن "جائزة ترضية" حيال الخسائر المريعة التي أصابتهم في الوطنية وفي النظام الاجتماعي والديني، واكتشفوا في لحظة شاذة من التاريخ أنهم البلد الأعلى فسادا وتخلّفا في العالم. مفاد القصة التي مازالت شائعة ومتداولة على تطبيقات الهواتف الذكية، ومنشورة على مواقع إلكترونية وصحف ورقية تتحدث عن قيام السياسي والقيادي في الحزب الشيوعي الصيني دينج هسياو ينج آنذاك، بالاستعانة بجامعة أكسفورد لترشيح متخصص بالتنمية الاقتصادية والإدارية للعمل مع الحكومة الصينية بصفة مستشار أول. وتستمر القصة المعبّرة بامتياز عن "ما بعد الحقيقة" باختيار خبير من أصول عراقية يعمل في جامعة أكسفورد، للمهمة بعد مغريات مالية. وتقول القصة الملفقة إنه "بعد ثلاث سنوات من بداية عمله ووضعه خطة إستراتيجية لكل وزارة، أخذت تجربته الإصلاحية لاقتصاد الصين تظهر للعيان". وتصل القصة المزيّفة إلى أن من يقف وراء نهضة الصين الاقتصادية الحالية مجرد رجل واحد حول اقتصاد الصين الهزيل الركيك إلى الأول عالميا! ويا للفخر إنه عراقي مسيحي. بالطبع كل الذين تداولوا "القصة المزيّفة" كان دافعهم الفخر بعراقيتهم المكسورة! بغض النظر عن مضمونها الملفق وغير المعقول، لكن لا أحد منهم جرّب الاستعانة ببحث بسيط في موقع جامعة أكسفورد للتأكد من مصداقيتها. هذا يعني ببساطة أن الأكاذيب لا تصنع نفسها بنفسها في العالم الرقمي، بل نحن "المستهلكون الرقميون" حاضنة ناجعة لها. وإذا ارتقت المثالية إلى سلوك البشر "من لا يطمح إلى ذلك؟". فالتاريخ الذي يكتبه جيل الهواتف الذكية اليوم، يحرّض على تدمير نفسه بنفسه وليس تدمير العدو، ولن يكون بعدها الاحتقار الذي عبّر عنه كاتب على درجة من الأهمية مثل تيم هارفورد، لفيسبوك، مجرد تعبير فظ من صحافي، بل رغبة جماعية للرفض لمنع خطر يمس الجميع وليس الصحافة وحدها. كرم نعمة karam@alarab.co.uk
مشاركة :