القاهرة: «الخليج» «ببيتا خيمنث»، هي أولى روايات «خوان باليرا» وأهمها نشرت عام 1874 عندما كان الكاتب في الخامسة والخمسين من عمره، نشرت أولاً في مجلة «إسبانيا» على حلقات من مارس إلى مايو، ثم تحولت إلى كتاب بعد ذلك مباشرة، وهي في أساسها حدث خفيف في حياة باليرا، حدث قريب جداً منه، وقع لأحد أفراد عائلته الخاصة، إنها رواية سيكولوجية مع بعض الملامح من التقاليد والعادات في إقليم الأندلس بجنوب إسبانيا، وهي رواية رسائلية قوامها خطابات يرسلها البطل إلى عمه الأسقف، يعكس فيها التطور النفسي الذي يعانيه، والذي هو عقدة الرواية والصراع بين الشعور الدنيوي والشعور الديني.كان «خوان باليرا» (1824-1905) ليبرالياً معتدلاً، ومتسامحاً، وديكارتياً متأنقاً، في ما يتصل بالظاهرة الكاثوليكية في إسبانيا في القرن التاسع عشر - على حد تعبير د.محمد أبو العطا في تقديمه للرواية التي ترجمتها ثريا سعد الدين - فقد كانت إسبانيا على مدار العصور وحتى وفاة فرانكو، معقلاً عتيداً للكاثوليكية، لذا كانت المسألة الكاثوليكية من ضمن اهتمامات المفكرين وشغلهم الشاغل في بحثهم عن طرائق جديدة، ومسارات للمجتمع المدني، ففي مواجهة الفكر الظلامي ظهرت شخصية «المفكر الحر» الذي يراهن على الحرية والديمقراطية والعلم.ولأن باليرا كان ناقداً أدبياً أولاً، قبل أن يكون روائياً، فهو عدو لأية مبالغة فانتازية، أو عاطفية ذات أصل رومانطيقي، بل يميل إلى رسم مناخات واقعية محددة، لكنها أميل إلى المثالية، وشخوص من الواقع - خاصة النسائي منها - تميز الكاتب في تحليلها نفسياً، و«باليرا» أيضاً له أسلوب أدبي هو الأفضل بين الكتاب الواقعيين في القرن التاسع عشر.ورواية «ببيتا خيمنث» تكشف عن براعة «خوان باليرا» الروائية، إذ يقدم تنويعات رفيعة من التحليل النفسي على خلفية اختيار الكاتب الرواية الرسائلية، قالباً لها، قد يكون ذلك كافياً، غير أنه لم يكن كافياً بالنسبة لباليرا الذي كان يخط طريقاً لما نعرفه الآن ب«الميتا رواية»، أو «الميتا سرد»، فعلى صفحات الرواية يناقش الكاتب أساليب كتابة الرواية المختلفة بين رومنطيقية، وواقعية، ويفرد مساحة لآرائه حول جنس الرواية، يفعل ذلك في نقاء ودعابة رهيفة.مارس «باليرا» الأنواع الأدبية كافة، لكنه تخلى عن الشعر في أواخر أيامه، ودائما كان يشعر بخيبة أمل لعدم نجاحه كشاعر، خصوصاً عندما لمع شعراء كان يرى شعرهم سوقياً ومبتذلاً، أما «باليرا» الناقد فكان يحظى بمرتبة أكبر، تقريباً مثل رجال عصر النهضة، على أن الذي يهمه إجمالاً الأدب والتاريخ والفلسفة والاقتصاد السياسي، و«ببيتا خيمنث»، هي أولى روايات باليرا، وأهمها، نشرت عام 1874 وعندما ظهرت هوجمت من قبل بعض النقاد والروائيين، فقد نعتوها بغير الأخلاقية، لكنها سرعان ما قوبلت بالترحيب عامة، وبإعجاب شديد، فقد أنصفها جمهور النقاد والقراء، وعلى مدى قرن استطاعت الرواية أن تحتل مكاناً مشرفاً في أي منتج أدبي في القرن التاسع عشر.لقد كتبت الرواية ونشرت عندما كانت الواقعية في أوج تألقها، لكن من دون أن تكون غارقة بأسلوبها ولهجتها في الواقعية، وعلى الرغم من أن الطابع الذاتي يسم نصوصه الروائية، يؤكد باليرا أنه بهذه الرواية عزم على مواجهة الرجعيين والمتعصبين، ويضيف: «بما أنني رجل عصري دنيوي، ولست مثالياً في حياتي ومشهور بأنني لا أعتقد، لم أجرؤ على الكلام باسمي، فاخترعت طالب لاهوت لكي يتحدث».باليرا، أحد رواد جيل 68 وقد انتهى من دراسته عام 1846 وانتقل بعدها إلى مدريد، وكانت لديه ملكة اجتذاب الناس فحظي بإعجاب الجميع، وفي عام 1847 حاولت عائلته إلحاقه بالسلك الدبلوماسي، وحصل على وظيفة ملحق بسفارة إسبانيا في نابولي، وعند عودته إلى مدريد في خريف 1853 بدأ يتفرغ بجدية للنقد الأدبي، وفي عام 1865 عين وزيراً في فرانكفورت، وشغل ذلك المنصب لعام واحد، ثم اعتزل بعد ذلك الحياة العامة، وتفرغ نحو سبع سنوات مكباً تماماً على الأدب، إنها الفترة الأكثر خصوبة في حياته بأكملها.عمل بعد ذلك وزيراً مفوضاً في لشبونة وواشنطن وبروكسل، وفي العقد الأخير من حياته، عاش باليرا في هدوء، ولم يكن يبرح منزله، وفي أواخر عمره، في السبعين، كف بصره، واحتاج إلى إملاء كل شيء على سكرتيره الخاص، وكانت مرحلة إنتاج حقيقي في حياته، وعندما كان يكتب خطاباً أكاديمياً حول «اعتبارات حول دون كيخوتا»، للاحتفال بالذكرى الثالثة بعد المئة لهذه الرواية وافته المنية، وتوفي في 18 إبريل/ نيسان عام 1905.
مشاركة :