طه حسين وتوظيفه للشك الديكارتي

  • 3/19/2024
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

محمد السعد m_alsaad15@ «أنا أفكر إذن أنا موجود» عبارة الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، ذائعة الصيت التي يرددها كثير من الناس دون معرفة سياقها الديني. أطلقها ديكارت وهو يمر بحالة شك عميقة جعلته يشك حتى في وجوده الشخصي. ونحن بدورنا نتساءل: ما الحالة التي تجعل الإنسان مهما أكثر من التساؤلات والشكوك، أن يصل مرحلة الشك في وجوده الشخصي؟ الإنسان الذي يشك في وجوده الشخصي هو في الحقيقة يمر بمرحلة غير طبيعية من الوعي. ماذا يمكن تسمية الحالة العقلية أو النفسية التي أوصلت ديكارت إلى مرحلة الشك في وجوده؟ في كتاب «في الشعر الجاهلي» حاول طه حسين أن يوظف الشك الديكارتي في دراسته للشعر الجاهلي، وهنا يقول طه حسين: «أريد أن أقول إني سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة. أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج أن يتجرد الباحث من كل شيء يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما». لدينا بعض الوقفات عند حديث طه حسين، فهو هنا يذكر بأن الشك أسلوب علمي وفلسفي. بمعنى أن الشك الفلسفي لا يختلف جوهريا عن الشك العلمي. وهنا يمكن القول إن عميد الأدب العربي قد وقع في فخ التوظيف الشكلي للشك الديكارتي، ولم يوظف الشك الديكارتي في سياقه الصحيح. فالشك عند ديكارت شك فلسفي بمعنى أنه يشك في مصداقية الحواس البشرية، والعلم لا يشك في مصداقية الحواس بل يعتمد عليها، العلم يقوم منهجه على طريقتي الملاحظة والاستقراء، وكلاهما يعتمد على الحواس في إثبات نتائجه. الشك في الحواس هو الذي أوصل ديكارت لحالة الشك في الذات، وهي مرحلة لا واعية يلغي فيها الإنسان حواسه بواسطة رياضات روحية محددة، تنتشر في بعض مذاهب التصوف اليوناني والهندوسي، تجعل الإنسان يفقد اتصاله بالعالم الحسي ويبقى عقله الباطن أو تفكيره اللاواعي منتبها، وهذا ما جعل ديكارت يطلق عبارته «أنا أفكر إذن أنا موجود». ديكارت لا يستحدث منهج الشك الفلسفي القائم على أساس الشك في الحواس، كما يعتقد طه حسين، فمنهج الشك ضارب في القدم، يعود تاريخه لما قبل الميلاد، ويمكن اعتباره حالة من الفناء، فهو أسلوب أو طريقة لاقتحام بحر الفناء. ديكارت كان يسعى للوصول إلى اليقين، ولكن ليس اليقين كما هو معروف في العلم الحديث، بل شهود الحقيقة الكونية عن طريقة سلوك طريقة أشبه بمقامات العارفين في الطرق الصوفية، وأول الطرق الموصلة لليقين هي الشك في الحواس البشرية. ولا أظن أن طه حسين كان يشك في حواسه حين عقد النية على دراسة الشعر الجاهلي. وهذا ما يجعلنا نؤكد بأن توظيفه للشك الديكارتي كان توظيفا شكليا في الحقيقة. الشك في الحواس مبني على عقيدة دينية شاعت عند شعوب وأمم عديدة، وهو وسيلة للوصول إلى الفناء، وفي كتاب «مدارج السالكين» لابن قيم الجوزي، أحد أهم المراجع التي تناولت بالتفصيل موضوع الفناء، وفيه يقدم ابن القيم وصفا دقيقا للتصوف عند الفلاسفة، ونستطيع من خلال كتابه العميق أن نجد التشخيص الدقيق لحالة ديكارت التي جعلته يشك في وجوده ويطلق عبارته الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجود». فالشك الديكارتي يمكن اعتباره تمرينا روحيا للوصول لحالة الفناء الشبيهة بحالة النيرفانا في بعض الأديان الآسيوية. يقول ابن قيم معرفا مفهوم الفناء: «والفناء الذي يشير إليه القوم ويعملون عليه: أن تذهب المحدثات في شهود العبد، وتغيب في أفق العدم، كما كانت قبل أن توجد. ويبقى الحق تعالى كما لم يزل. ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضا فلا يبقى له صورة ولا رسم. ثم يغيب شهوده أيضا. فلا يبقى له شهود». هنا نجد وصفا دقيقا لحالة ديكارت وتفسيرا لعبارته (أنا أفكر إذن أنا موجود). فالشك عند ديكارت لم يكن علميا بالدرجة الأولى بقدر ما هو سلوك ديني خاضع لمعتقدات وأساطير يونانية قديمة.

مشاركة :