النزوع إلى البحث عن الفضائح على مواقع التواصل الاجتماعي مرده النفسي أنَّ كلَّ إنسان يشعر بانعدام خصوصيته في العالم الرقمي، بل وأنه مراقب عبر الأجهزة الذكية التي بيده، فتكون من حيله الدفاعية البحث عن فضائح غيره التي باتت متابعتها ممكنة عبر منصات التواصل. فكل فرد يستخدم الدفاعات النفسية كاستراتيجيا نفسية يستخدمها العقل الباطن لحمايته من التوتر الناجم عن الأفكار أو المشاعر المرفوضة. وهذا ما يحدث تماماً في حالات البحث عن الفضائحية المفرط. هؤلاء الأفراد تماهت مشاعرهم الإنسانية مكوّنة فكرة البث المباشر كحيلة دفاعية. وبالبحث عبر «غوغل» عن مفردة «فضائحية» ظهرت 9 ملايين و760 ألف نتيجة. لكن البحث الجماعي بدا منفرداً، كل يبحث عن ضالته، ويغذّي ثقافته الشخصية، سواء بحث عن فضائح أو أخبار معدومة الصدقية. في تسارع جنوني، والمريب يكمن في الدفاع المستميت عن صدق ما يبث عبر المنصة الشخصية، على رغم عدم ثبوتية أصله أو زيفه، فتكون «فوضى» بالمعنى الدقيق للمصطلح. وهذا ما يحدث في تناقل الأخبار من منصة إلى أخرى في محاولات تشويه تعرّض لها كثر من الماء إلى الماء (إعلاميون، مثقفون، سياسيون، فنانون...). ولأن الفضاء الإلكتروني بلا رابط انتشرت فوضى الجهل بلا حسيب أو رقيب، بل وتنامت، ولا تزال، يوماً تلو آخر. وبين نظرية الفراشة، والخطب، بدت خاصية البث المباشر على مواقع التواصل الاجتماعي أخيراً، التي دفعت الغالبية من روّادها ليكونوا مركز بث، على مدار الساعة، وفي ظنهم أن نظراءهم «الروَّاد الآخرين» مجرّد جمهور. وعلى الجمهور أن يكون متلقياً دائماً، من وجهة نظرهم التي بلغت حد اليقين، من كونه باحثاً دؤوباً عن الفضائحية. في حالة البث المباشر الدائم على مواقع التواصل، تنعدم القدرة على التلقي تلقائياً، لأنَّ الجميع سيبث مباشراً مقاطع فيديو، أياً كان نوعها، وعظية، فنية، تعليمية، سياسية. لكن زمنها الكثيف يستحق أن يكون أعمق كثيراً من المعروض، نظراً إلى قوة تأثيرها ولحظية انتشارها. فوفق ترتيب الأكثر مشاهدة والأكثر جذباً للمشاهد يأتي الفيديو، ثم الصورة، وثالثاً الكلمة، ومن هنا اكتسب «البث المباشر» صفة الأكثر مشاهدة لأنها عبارة عن مقاطع فيديو، غالباً، خالية من المضمون أو المعنى القيمي الهادف. هذه الطريقة ذاتها، كانت أحدث حيل تنظيم «داعش» التي انتهجت نهج ما عرف أخيراً بمصطلح «الذئاب المنفردة»، إذ كل إرهابي داعشي لا يتصل بأحد، ويكون هو عينه قنبلة موقوتة، يدعم نفسه ذاتياً، بعد تجنيده، ويكون أحد مستخدمي «البث المباشر» لمحاولة نشر فكره، أو تمرير ما يمكن أن يخدع ويجذب في الوقت ذاته قطاعاً عريضاً من اليافعين. حتى تكوّن جيل يروّج أفكاره باستماتة الجاهل على الخروج منتصراً من النقاش الذي تحوّل إلى حلبات مصارعة، بهدف جرّ الآخر إلى الخطأ، أو تأكيد المثل الفرنسي القائل «الآخر هو الجحيم»، فالكل أصبح «آخر» لـ «آخر»، وتتنامى مأساة التفاعل المتشدد الأجوف. «البث المباشر» مكوّن ثقافي جديد، مؤثر إلى حد كبير، إذ كل مؤثر يتعرّض له الإنسان يتأثر به سلباً وإيجاباً، على غرار نظرية الفراشة القائلة إنَّ جناح الفراشة قد لا يكون أثره واضحاً الآن، لكنه ممتد، وقد يكوِّن بعد آلاف السنين فيضانات على الجانب الآخر من الكرة الأرضية. إذا وضعنا في اعتبارنا «نظرية الفراشة» وتقاطعها مع خاصية «البث المباشر» الممنهجة جداً لتحويل روَّاد مواقع التواصل إلى منصات اجتماعية، حيث كل يسعى ليكون له جمهور بالعشرات والمئات والآلاف والملايين، سنكتشف التأثير المباشر والكبير لتكوين إما «ذئاب منفردة»، أو «مروّجي الأكاذيب» بهدف إحداث بلبلة في الشارع، وهذا ما لمسناه جميعاً، ولا نزال عبر «فايسبوك»، وتأثيره في ما يسمّى بأحداث «الربيع العربي» المشؤومة. في حال تحويل كل رواد مواقع التواصل إلى منصات بث مباشر، تكون صفة التعالي على الآخرين قد تشكلت، ولا يقبل أحد من أحد معلومة صحيحة، أو حتى غير صحيحة لمناقشتها، فالكل وفق التعبير الشعبي في الشارع المصري أخيراً «رئيس جمهورية نفسه». هذه الجمهوريات أو ديكتاتوريات مواقع التواصل لا تعي أنها تقدّم ثقافة موجّهة. قد تكون هدامة في مرحلة من مراحل التاريخ، وقد تكون بناءة في مراحل أخرى، حال دراستها دراسة متأنّية. ولكن، من أين تأتي الدراسة المتأنية، وكل منصة أو حساب شخصي، شخصه مأخوذ بهاجس أن يكون مصدر معلومة مثيرة، حتى يزداد عدد المتابعين على حسابه، وينال الشهرة «الموقتة». على هذه المنصات تنتشر الفوضى، التي تغيب جيلاً معاصراً عن مفهوم تلقي الثقافة من مصادرها الموثوقة. إذ ليس كل من يخرج على شاشة ليتكلّم يكون مصدراً للمعلومة، فقد يكون مضللاً، من حيث أراد النفع، وقد يعي ذلك، وقد لا يعيه. البث المباشر على رغم خفته، إلا أنه صار مؤثراً تأثيراً كبيراً في المتابعة السريعة، إن أحسن استعماله في الشؤون المتخصصة إعلامياً مثلاً. في الوقت ذاته، يغيب عن البث المباشر، استنهاض الدور القيمي للأفراد داخل مجتمعاتهم، أو استثماره في بث روح جديدة لتجارب ملهمة، أو حتى حديث عابر عن قضية يومية يواجهها أصحاب البلد الواحد. يخلط مروّجو «البث المباشر» على مواقع التواصل بين دور الإعلامي وأثر الفرشة، وخطيب يلقن الحضور بعض القيم المقررة عليهم أسبوعياً، وفق الحال السياسية التي تختلف من بلد إلى آخر، وأحياناً في صناعة «الذئاب المنفردة»، وترويج الأفكار الهدامة. ولأن أثر الفراشة لا يزول، فطن الشاعر الفلسطيني محمود درويش إلى هذا الأثر المهول في الواقع، فصاغه في قصيدته الشهيرة «أثر الفراشة»، والتي نظم فيها قائلاً: «أثر الفراشة دائم/ أثر الفراشة لا يزول/ هو جاذبيّة غامض/ يستدرج المعنى/ ويرحل حين يتّضح السبيل».
مشاركة :