يحاول الشاعر والناقد سلطان الزغول، في كتابه “الذاكرة الثقافية للقصيدة العربية في العصر الحديث”، أن يقرأ علاقة الشعر العربي الحديث بذاكرته الثقافية من باب التناص، طامحا إلى ما هو أبعد من دراسة تصنيفية خارجية. إنه يروم البحث في العلاقات التي تنشأ من خلال التناص، والأبعاد الفنية التي يمكن أن يعبر عنها ارتباط هذا الشعر بذاكرته الثقافية، بل إعادة إنتاجها في الغالب. فهو لا يهدف إلى وصف الوقائع شكليا، بل يرنو إلى تفسيرها من خلال الحفر في طبقات النصوص. ذاكرة القصيدة أما منهج الكتاب، الصادر حديثا عن دار أزمنة في عمّان، فمهاده التأويل المنفتح على كلّ ما يمكن أن يحقق فائدة للدخول إلى عالم النصّ، انطلاقا من مقولة الناقد المغربي محمد مفتاح “إنّ النصّ الأدبي يمكن أن يقبل تعدّد القراءات، لكن ما لا يقبله هو التأويلات غير المتناسبة منطقيا، لأنها تحطّم أهمّ دعامتين يقوم عليهما مفهوم النص، وهما: الانسجام والتعقيد المنظّم”. ويشير الزغول إلى أنه يؤمن بالطاقات الجمالية للغة الشعرية، التي تقوم على دعامة راسخة من المجاز وإيحاءاته الغنية، وبأنّ النصّ الشعري يتشكّل وفقا لأحوال قائله النفسية، والسياق العام الذي نشأ فيه. وبناء على ذلك اتخذت دراسته هذه منهجا فنيا منفتحا على التيارات والسياقات، أي أن منهجها أقرب إلى أن يكون منهجا تكامليا. أهمية هذا الكتاب تنبع من مناقشته مرجعيات القصيدة العربية المعاصرة، الأسطورية والدينية والتراثية في الفصل الأول محاولة للنفاذ إلى معرفة التناص بتجلياته وانطلاقاته، ابتداء من الملامح التي أشارت إليه قبل أن يتبلور ويتوضّح مفهوما ومَعبرا لقراءة النصّ، وصولا إلى آخر تجلياته النظرية عند المفكرين والنقاد. ففيه رصد لتوجهاتهم، وعرض لمواقفهم من المصطلح، وآليات تفعيله في القراءة النقدية للنصوص، وذلك في سبيل تبنّي موقف أساسيّ في الدراسة التطبيقية اللاحقة، التي تتخذ الشعر العربي الحديث ميدانا لها. وهو موقف يتضح من خلال عنوان الدراسة التي ترى الشعر من خلال ذاكرة ثقافية خصبة تعيد إنتاج المُنتج عبر التناص الغنيّ. فبدأت بالذاكرة التي تشكلّ أرضية التناص ومهاده الغنيّ، “قبل أن أعرض تطوّر المفهوم، وما مرّ به من انحسار وامتداد، وصولا إلى استقراره ملمحا أساسيا في بناء النظرية النقدية في آخر تجلياتها. وانتهيت بالإشارة إلى بعض التجارب النقدية العربية التي تعاملت مع التناص مفهوما وتقنية نقدية”. ركّز الزغول في الفصل الثاني على تعرّف الذاكرة الثقافية لقصيدة الإحياء، القصيدة التي شكّلت منطلق الشعر العربي الحديث، زمنيا على الأقل، وارتبطت به من خلال ثورته عليها، دون إغفال ما للإحيائيين من خصوصية وتميّز، فهم يتبعون عمود الشعر العربي بنظريته القديمة القارة من جهة، ومن جهة أخرى يأخذون على عاتقهم نهضة الشعر وإطلاقه من قيود الجمود التي كبّلته عصورا طويلة، لكن عبر العودة إلى القصيدة التراثية، في محاولة منهم لإعادة كتابتها والعيش في عوالمها الغنية الماضية. تحليل الذاكرة الثقافية للنصوص الشعريةتحليل الذاكرة الثقافية للنصوص الشعرية وينتقل الزغول في الفصل الثالث إلى منتصف القرن العشرين، حيث وَجَدَتْ محاولات الرومانسيين والرمزيين، وبعض المحاولات الأخرى نضجها واستقرارها في شعر التفعيلة، أو الشعر الحرّ، والذي حمل من خلاله بعض الشعراء راية قصيدة النثر في حركة أكثر جرأة في تمرّدها على السياق الكلاسيكي الذي ظلّ مهيمنا على حركة الشعر العربي قرونا طويلة. التمرد الشعري إن الحركات التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين قد تبلورت واستقرت في حركة الشعر الحرّ من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الشعر الحرّ صار هو الممثل الشرعي للشعر العربي الحديث بفعل ثباته واستقراره، وقوة تدفّقه، وقدرته على التعبير عن حركة الحداثة. فإذا كان أعلام الشعر الحرّ في خمسينات القرن العشرين وستيناته قد مثّلوا نهر الشعر العربي المتدفّق، حتى صار من يكتب القصيدة بشكلها القديم رافدا صغيرا من روافد هذا النهر، فقد حمل الراية بعدهم رفاق آخرون، واستمر تدفّق النهر مسيطرا على المشهد، ومبرزا إمكانات الشعر العربي وقدرته على التواؤم واستيعاب الحداثة. فناقش المؤلف في هذا الفصل جوانب أساسية تمثّل مرجعيات القصيدة العربية الجديدة الأسطورية والدينية والتراثية، أي معظم ملامح الذاكرة الثقافية لهذه القصيدة، عبر قراءة نصية واعية متمعنة. انصبّ اهتمام الزغول في هذه الدراسة على التطبيق، فحاول طرح أفكاره من خلال مناقشة النص الشعري، خاصة في الفصل الثالث، حيث سعى إلى قراءة الصورة وتَجليّتَها في هذا الفصل الأخير من خلال ثلاثة مفاصل أساسية هي: الموت الفردي المتمثل في ثنائية الخصب والانبعاث، والموت الجماعي المتمثل في قصة الطوفان، والمتنبي قناعا. تنبع أهمية هذا الكتاب من مناقشته مرجعيات القصيدة العربية المعاصرة، الأسطورية والدينية والتراثية، أي معظم ملامح الذاكرة الثقافية لهذه القصيدة، مركزا خلال ذلك على التطبيق عبر مناقشة النص الشعري. وقد خلص الكاتب إلى أن شعراء القصيدة المعاصرة قد تفاوتوا في طريقة استنادهم إلى الذاكرة الثقافية لإبداع النصّ، فبعضهم قد أبدع في إعادة إنتاج مرجعيات قصيدته عبر التناص الغني والخلاق، بحيث يبدو النصّ المرجع جذرا مساندا لا تكاد تلمحه في ظلال النصّ الجديد، الغني والمختلف، بينما اكتفى بعض آخر ببناء مواز للنصّ المرجع الذي هيمن حضوره على عالم النص الجديد.
مشاركة :