تعدّ مرحلة الطفولة مخزوناً وجدانيّاً،وذهنيّاً حاضرا في أي ذاكرة إنسانية.تعكس تجربة حياتية.تفصح عن نفسها من خلال إطلاق المشاعر المعبرة عن فعل الحياة و الكينونة.مما يكشف عن ذاكرة خصبة مليئة بالصور و الأحداث.إن طبيعة الشاعر الانفعالية،تجله من أكثر الناس قدرة على تصوير هذا المخزون،وتوظيفه في عمله الفني.يكشف من خلال ذلك عن رغباته الساكنة،وأحلامه النازفة.لأن معظم اللاشعور مكتسب في الطفولة.نتيجة لما تلقاه الإنسان فيها من صدمات،وتوترات انفعالية.يضطر إلى كبتها،أو قمعها.يرى غاستون باشلار في هذا الصدد أنّ تأملات الإنسان الشاردة، تتجه منذ الطفولة إلى الذاكرة.لعل هذا ما يحتم على المبدع نوعا من الارتداد إلى الطفولة في مختلف إبداعاته.لم يكن الشعر العربي الحديث بمنأى عن مخزون الذاكرة/الطفولة. يحث حفل بنماذج شعريّة كثيرة دالة على استدعاء الطفولة في النص الشعري.ممّا يعكس ثراء هذا الجانب الوجداني في الشعر،وتأثيره في مجمل التجربة الشعريّة.تجلى ذلك على سبيل المثال لا الحصر في شعر أبي القاسم الشابي،بدر شاكر السياب،صلاح عبد الصبور،وغيرهم من الشعراء العرب.يندرج في هذا السياق،الشاعر السعودي محمد الدميني.فقد عمل هذا الأخير على نحث اسمه الشعري في المشهد الإبداعي السعودي خاصة والعربي بشكل عام.أصدر العديد من الأعمال الشعرية.أغنت تجربته الإبداعية وحددت سمات نصوصه الفنية.من أبرزها:أنقاض الغبطة (1989)،سنابل في منحدر (1994)،أيام لم يدخرها أحد(2016).رسخت هذه الأعمال أسلوبه الشعري وشكلت مقوماته الأسلوبية والفنية. عتبة النص: قبل أن نلج العوالم النصية لديوان الشاعر محمد الدميني،تستوقفنا العتبة الأولى للديوان/العنوان الرئيسي(أيام لم يدخرها أحد).هذه العتبة الرئيسية التي هي في الوقت نفسه عتبة ثانوية/عنوان النص العاشر من الديوان(ص:38).يؤشر ارتباط العتبة الرئيسية للديوان بهذا النص،بأن هذا الأخير عبارة عن نواة النص العام/الديوان.تعرف هذه النواة نوعا من التشضي.تتناسل من خلالها باقي نصوص الديوان الشعرية.مما يجعل الدال«أيام لم يدخرها أحد»،(بدلالته الزمنية/الماضي المرتبطة بالذاكرة) يحضر في كل نصوص الديوان(البارد /ص :7، الماضي/ص:33، الأيام/ص: 38 و49، العائد/ص: 69،..الخ).يجعل هذا البعد الزمني مظاهر هذا المخزون/الذاكرة مبثوثة في ثنايا هذه النصوص.حيث تبقى صيغه مرتبطة بعوالم الطفولة والحلم.بهذا تعرف نصوص هذا الديوان نوعا من الارتداد إلى عوالم الطفولة والحلم. عوالم الطفولة والحلم في شعر محمد الدميني: يعكس هذا الارتداد إلى الماضي، مدى أهمية زمن الذاكرة في تشكّل النص الشعري.إنه زمن غني الدلالات،شائك، ومعقد. لكونه يجمع بين الشعور واللاشعور.سواء الجمعي أو الفردي.يدخل تحت نطاقه التاريخ الفردي،والتاريخ المجمعي على السواء.إن لم نقل تاريخ البشرية كلّه.بما فيه من تراث أسطوري، وديني، وصوفي، ورمزي.إن ما يُميّز نص الذاكرة في شعر محمد الدميني، كونه نصا مولّدا للصور الفنية بشكل منسجم مع تجربته الشعريّة.فقد جسّدت الصور الشعريّة ارتباط الشاعر الطفولي بالمكان(الأرض، البحر، التراب...الخ).ورغبته في معانقة رؤاه الحالمة.وذلك بإبداع صور حسيّة ذات ارتباطات ذهنية.تستفز الذاكرة.كما تمنحها دفقاً شعوريّاً متسق العواطف.لهذا، تبقى خبرات الشاعر المنبعثة من مرحلة الطفولة ذات تأثير واضح في مجمل نصوص الديوان.إنّ استدعاء الشاعر لطفولته، جعل الذاكرة أكثر إنتاجاً، وفاعلية في نصوصه الشعرية. 1.ذاكرة الطفولة: تكشف الذاكرة عن حضور واضح لما يكتنزه العقل الباطن من أحداث.تنبثق من أعماق الذات.لتظهر في النسيج الكلي أو الجزئي للنص.تعبر عما اختفى في عمق الذاكرة من صور،وتجارب.فتظهر إلى السطح من جديد من خلال عملية التداعي.لهذا،يبدو أن الصور الذهنية المختزنة في مخيلة الشاعر أخذت تزدحم،وتتداخل مع بعضها في إطار وجداني خاص.تعمل على بناء واقع جديد أكثر قدرة على مواجهة الواقع الماضي/الذاكرة.إنه تعبيرٌ انفعالي.يحمل شحنات نفسيّة ذات كثافة استعارية.يرتدّ فيها إلى الطفولة،كما في قوله في نص«نقل الماضي»ص،33: إننا ننقل الماضي إلى جهة غير معلومة لأننا نخلف في هبوطنا السريع حفرا كثيرةلا تملأها أنفاسنا الشاحبة. لقد رسم الشاعر مشهداً تصويريّاً لطفولته.عبّر من خلالها عن امتداد هذا الزمن بعبارة (نقل الماضي) ذات التعبير الاستعاري الذي يعكس فعل الطفولة الجامح.يرتبط منشأ هذه المشاعر المتدفقة بذلك الحسّ الطفولي الذي تصدر عنه.وكذا بنوع التجربة النفسيّة،والشعريّة،والألوان المتنوعة التي تعبّر عنها.إذ امتلأت ذاكرة الشاعر بصور الطفولة التي ما لبثت أن طغت على أفكاره.إنّ شغف الشاعر بسرد ذكرياته الجميلة،أخرج النص من عزلته اللغوية، وجعله أكثر انسياقاً وراء طفولته التي اتجهت بالزمن نحو التكثيف.لذلك فإنّ عملية استدعاء ذاكرة الطفولة في الشعر محكومة باعتمالات النفس الشاعرة.مما يحول حضورها إلى اسقاطات ذاتية، أو تعويض عن نقص ما، أو نكوص إلى مرحلة سابقة، أو تبرير لفعل معين،أو تجربة يمرّ بها الشاعر.يهدف من خلالها إلى إعادة التوازن، والأمن، والارتياح للنفس الثائرة.يتشظى مثل هذا الإحساس الطفولي في شعر محمد الدميني على شكل مفارقة عبثية في ظاهرها.لكنها دالة في باطنها.تحمل صفاء زمن الطفولة،وبعده عن مرارة الواقع.كما في قوله في نص«مكان لأيامك الثاكلة»ص،50: لا نعرف كيف غادرت؟ كيف خاتلت أمك واختلست نومها فأصبح الصبية والبنات يتقاذفون الكرة في يقظتها الشاسعة أسهم انتماء الشاعر إلى عالم الطفولة في إحداث أثر واضح في المتلقي. حيث أعاد الذاكرة إلى حُلميتها، وقدرتها على تشكيل عالم أكثر نقاء وجمالية. 2.ذاكرة الحلم: يكتسب الحُلم أهميته في قصائد محمد الدميني من خلال فاعلية تأثيره في النص الشعري، وغناه الفكري، ودفقه الوجداني. وذلك بإظهاره لمشاعر متباينة من الحنين، والأمل، والقلق. ممّا يجعل الحلم مرادفا للحياة بكلّ ما تحمل من معنى.وإذا كانت الرؤية هي من فعل العين المجردة في حالة اليقظة، فإنّ الرؤيا الإبداعية من فعل التخييل في أثناء الحلم.يتميّز نص الحلم بما يكتنزه من حاجات نفسيّة، واجتماعية.يحتضنها فكر الشاعر الذي يأمل في تحقيقها. ممّا يجعله أكثر قرباً والتصاقا بالتجربة الشعريّة.وذلك باقترابه من طبيعة الخلق الشعري.تجلى ذلك في هذا الديوان في النصوص التالية: أحدية (ص: 46)، قبلات(ص:47)، هذه الصخرة..صديق ميت(ص:57)،بياض(ص:65)،زنبق مذعور(ص:73)،يوم شبيه بالرشوة (ص:75).حيث تتسع دائرة الحلم في هذه النصوص،لتعبر عن فعل الامتلاك المؤدي إلى فاعلية نصية.يتقاطع هذا مع حديث رولان بارط عن لذة النص.حيث ذهب رولان بارت أن الحُلم يمتلك معرفة حضاريّة راقية.تعكس منطقاً واعيّاً،مترابطاً ترابطاً رهيفاً لا مثيل له.لا يستطيع امتلاكه سوى عمل يقظ مكثف(6).أظهر الشاعر محمد الدميني في نصوصه الإبداعية الوجه المشرق للطفولة الجميلة.لكونها تتخذ صفة الزمن الدائم،المشبع بفعل الحركة،والاندفاع.كما في قوله في نص «قبلات» (ص:47): من وراء الستائر يتساقط الضوء كان برقا، وربما عاصفة ترتطم بالليل، كما ينقر عصفور زجاجا أصم إني أمضي إلى النبع إلى صخوره التي أكلها النسيان يلجأ الشاعر إلى الحلم للتعويض عن طفولة مفقودة بفعل قسوة الواقع واختلالاته.ممّا جعله يلجأ إلى التداعي الحرّ للأفكار بحثاً عن أحلام تجسّد تلك الطفولة الحالمة.إنّ استدعاء زمن الطفولة هذا،سمح بحدوث انزياحات لغويّة على مستوى النص الشعري لمحمد الدميني.أسهمت بدورها في تعميق البعد الدلالي ووضوح الرؤيا.حيث ينأى الشاعر بنفسه عن الواقع، وانكساراته.ويحنو إلى زمن شاعري بامتياز. يتجاوز مألوفية اللغة اليومية، واتساقها المعجمي، إلى إكتناه فضاء رحب من طفولة حالمة.تستجيب فيها المخيلة لفعل التخييل الشعري.ممّا يقترب بالشعر من التشكيل الفني الذي يسعى الفنان من خلاله إلى امتلاك فضاء واسع من الحلمية.يعبر من خلاله عن رؤياه الإبداعية المتقاطعة مع تلك الجذور الضاربة في الأرض على أعماق بعيدة.ففي قصيدة «رقاد صاعد من الغيم»،يستدعي الشاعر أحلامه التي ترتد إلى زمن الطفولة، بعدما ابتعد عنها زمناً.ليستلهم من مخزون اللاوعي أفكاراً قادرة على مجابهة الحاضر.ليكشف شاعر عن سياق حلمي.يعكس طفولة غائرة في الذاكرة.لقد اتّخذت الطفولة في شعر محمد الدميني صفة الزمن الدائم، المرادف للحياة.يسعى إلى معانقتها بعيداً عن الواقع.تنم عن صياغته برؤى جديدة،كما في نص«بياض».يقول الشاعر في الصفحة، 65 : تركت ورقا أبيض في كل أنحاء المنزل وكان علي أن أدفع الباب بعنف كي أداري ضجري الصباحي عملت كثيرا ذلك النهار بصلابة أحيانا يرتبط النص الشعري عند محمد الدميني بصور مليئة بالحركة والاندفاع.تتسع معها دائرة الطفولة والحلم.من أجل التعبير عن فعل الامتلاك.تم بناء هذه الطفولة وهذا الحلم،وفق نسق تعبيري واضح الدلالة.اغتنى فيها المعجم الشعري بألفاظ خصبة. ممّا أسهم في تشكيل صور ذهنيّة ذات علاقة واضحة بحالة المبدع النفسيّة وأساليبه الشعرية المتنوعة. * كاتب مغربي
مشاركة :