بعنوان ذاكرة النص في الشعرية العربية الحديثة، وامتداداتها التناصية قدم الدكتور والناقد المغربي، محمد جوادات، أستاذ الشعر الحديث، بجامعة محمد الخامس، أمسية نقدية تناول فيها (التناص) بمختلف أشكالهُ في النص الشعري العربي الحديث، وذلك مساء الاثنين (28 أكتوبر الماضي)، في أسرة الأدباء والكتاب، ضمن موسمهُ الثقافي لهذا العام. وانطلقت الأمسية التي حضرها لفيف من الأدباء والكتاب، بتقديم الدكتور جوادات، قدمهُ الدكتور الناقد علوي الهاشمي، الذي استعرض سيرة جوادات المعرفية والأكاديمية، لينتقل بعد ذلك لتقديم مسح مختصر عن موضوع التناص، الذي شغلني قبل أكثر من عقدين من الزمن، في اشتغالي النقدي، عبر المقالات الصحفية، والبحوث الأكاديمية، وكان الموضوع وقتها لا يزال بكراً، وأضاف مبيناً بأن التناص وجهان، وجهٌ آلي يشتغل في النص، وآخر يشتغل عليه، ليكشف مكنوناته. والتناص كما عرفتهُ جوليا كريستيفا هو العلاقة المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى، وهي لا تعني تأثير نص في آخر أو تتبع المصادر التي استقى منها نص تضميناته من نصوص سابقة، بل تعني تفاعل أنظمة أسلوبية، وتشمل العلاقة التناصية إعادة الترتيب، والإيماء أو التلميح، المتعلق بالموضوع أو البنية والتحويل والمحاكات. كما ينقل موقع الخليل للدراسات اللغوية والأدبية. ولفت الهاشمي إلى أن موضوع التناص تسلل إلى أدبنا الحديث، وعندما تتبع جذورهُ، وجدهُ من أكثر الموضوعات حيوية، مؤكداً أن هناك خلط بين البعد الأخلاقي، الذي يحيل التناص إلى مسألة السرقات، والبعد العلمي الذي يحاول دراستهُ وبحث أوجههُ المختلفة. إلى ذلك اقتبس الدكتور جوادات قول الشاعر الإنلجليزي (ت.س. إليوت) الذي قال إننا نكتب ما يكتبهُ الموتى من الشعراء ليؤكد بأن (التناص) هو منطق الحياة، ومنطق النصوص المشتركة، مضيفاً بأنهُ نسيج من النصوص المستحضرة من ثقافات آخرى، لكنهُ بيّن بأننا كعرب نقف في البدايات الأولى من التناص التي تربط النص بالنص. وبين جوادات بأن النقد العربي، خاصة ذلك الذي اشتغل على الشعر الحديث، أشتغل بشكلٍ مشتت، فتناول الإسطوري داخل الشعرية، أو الخروج عن القافية وغير ذلك، ليبين بأن الأمر مختلف فالقضية كلها في الشعر العربي الحديث تدخل في مسألة التناص، لافتاً إلى أن تجاوز الشعرية المقفاة، واستحضار البيئة في النص الشعري، والعنصر الأسطوري، وكل ذلك يمثل امتصاص الشاعر للنص، وإفرازهُ بشكل جديد، ولهذا يفترض جوادات بأن النصوص لا تدرس باستقلالية دون البيئة الشعرية المحيطة بمبدعها. وقال جوادات بأن (النص الأب)، وهو نص القصيدة التقليدي، أو ما قبل الحداثة الشعرية، لا يمكن تجاوزهُ، بل انهُ حاضرُ في النص الحديث، بأشكال مختلفة، فالقصيدة وإن خرجت عن الشكل العروضي، مثلاً، إلا أنها تنتمي إليه، كما يقول، مبيناً إن دراسة الإيقاع، باعتباره قضية مستقلة، لا تتم لإنهُ قضية تناصية. وتابع مؤكداً على أن القصيدة تبني عالم تناص من ذاكرة مختلفة، فهي تجعل النص الديني، والأسطوري، نصاً مبئراً أي عميقاً بدلالاته التي تستحضرُ كل شيء، خاصة الذاكرة الشعبية. ولهذا يصر جوادات على أن كل ظاهرة في الشعر العربي الحديث، يمكن قراءتها باعتبارها تناص. ويضيف موضحاً أن الشاعر يملك الذاكرة المفتوحة التي تمكنهُ من تقديم تجربة نابعة من تسكعه في الحياة وهذه الذاكرة تسمح لك كمتلقي، أو ناقد، أن تقارب النص بشكلٍ مفتوح، فيكون النص مختبراً مفتوحاً، تجعلُه مختلفاً. لذلك يبين جوادات بأن (مِيكانِزم) التناص هي (مِيكانِزم) أكبر من أن تكون ظاهرة، إنهُ ظاهرة مركزية، تستولي على مقومات النص كلها، حتى عندما يتعلق الأمر بالنصوص التي يراها الناس بسيطة، فحتى عندما يعمد الشاعر إلى نقل الخطاب اليومي، وشعرنته، فإنهُ يقوم بالتناص مع اليومي، إن ذلك، كما يسميه جوادات، سلطة الذاكرة، والذاكرة لا تموت. ويلفتُ جوادات بأنهُ عندما تم التصدي لمفهوم التناص في الذاكرة العربية، كان الناقدُ دائماً محبوساً في علاقة النص بالنص، وهي علاقة تقليدية عن التناص بوصفهِ سرقات، لكن مفهوم الذاكرة، هو مفهوم يعتبر المسألة ثقافية، فمنابع النص منابع ثقافية، والمسألة تؤكد بأن العمق النقدي الذي يحالف النقدية الغربية، يجب النظر إليه بمنظور جديد من طرف النقدية العربية، ويجب أن لا ننظر للنصوص باعتبارها تجارب ضيفة، بل تجارب كلية. ويختتم جوادات حديثهُ باقتباسة للشاعر أدونيس، يعرفُ فيها الشعر، بتعريفٍ لشاعرٍ غربي يقول إن الشعر هو الكشف عن عالمٍ يظل أبداً في حاجة للكشف، ويعقب على ذلك بأنهُ عندما يعرف شاعر عربي الشعر من الثقافة الغربية، فهذا يدل على ذاكرة تملك إمكانيات استثمار كل الثقافات ودمجها داخل منظومة ثقافية إنسانية، تسمى الشعر. من جانبه قال الدكتور علوي الهاشمي، موضحاً الفارق بين التناص والسرقة الأدبية، بأن السرقة يحاسبُ عليها تحت بند حقوق المؤلف، والملكية الفكرية، وهي أن تأخذ نصاً، وتضعُ عليه اسمك وأضاف ذلك فقط ما يسمى بالسرقة الأدبية، وما عدى ذلك فليس بسرقة موضحاً أن كل ما فيه جهد إزاء النص، هو جزء من المجتهد. وبين الهاشمي وجهة نظرهُ التي يعتقد فيها بأن القراءة للنص الشعري، إذا كانت قراءة معبرة، فهي تناص، لأن قارئها يوصل القصيدة بطريقته هو، وبالتالي، فهو نوعٌ من التناص، الذي يتمثل في عملية إنشاد، أو قراءة هذا النص وأضاف طالما أن القارئ للقصيدة، لا يقول بأن المقروء قصيدتي، وإنما القراءة لي، فهذا إبداع على مستوى علمية التوصيل، وهو يختلف من قارئ لآخر، فهناك قراءة تطفىء القصيدة، وآخرى تشعلها، فكيف نعتبر القراءتين واحدة؟ هناك جهد خاص في التفاعل مع القصيدة، ولو أراد القارئ أن يحول هذا المقروء إلى كتابة، فستكون العملية تناصية بالكتابة، وتصبح القصيدة شيئا آخر، فيها من الأشياء الكثير، ومنهُ المقروء.
مشاركة :