يشهد المغرب، تواتر مختلف أشكال التعبير والاحتجاج المتماوجة بين ظهراني «الفضاء الأزرق»، الذي أصبح بمثابة «ساحة عمليات»، والتي تصرّف مواقفها وآراءها حول قضايا الشأن العام بمختلف الأساليب. ففضلاً عن «التغريدات الحائطية»، تحضر الصور المركبة والرسوم الإبداعية، إضافة إلى الفيديو والرسائل الصوتية، ناهيك بالأشعار العامية والأغاني السياسية، التي انتعشت بقوة. وتتسم مختلف هذه التعبيرات غالباً بالدعابة والتهكّم والسخرية السوداء، ما يضفي على طابعها الجدي نوعاً من الطرافة والتسلية ويساهم في رواجها بقوة. ونسجل في هذا الباب الردود الساخرة على تدوينة لرئيس الحكومة سعد الدين العثماني، نشرها قبل أيام في حسابه الشخصي على موقع «تويتر»، قال فيها: «بناء على هذه الظرفية التاريخية، فإن حكومة الإنصات والإنجاز تولي عناية خاصة للملف الاجتماعي والاقتصادي، دون إغفال الحكامة ومحاربة الفساد»، وزاد: «لقد أعطينا انطلاقة متجددة وقوية في هذا المجال، بإرادة قوية وعمل جاد، والنتائج بدأت تظهر ولا يمنعنا من الإعلان عنها في حينها إلا واجب التحفظ»، لتثير بعد ذلك مباشرة سيلاً من التعليقات الساخرة. كما نسوق تعليقاً للمحلل السياسي عمر الشرقاوي، قال فيه: «رئيس الحكومة الذي قال إن التحفّظ يمنعه من الكشف عن منجزاته يشبه مرافعة عادل إمام في أحد أدواره كمحام يدافع عن موكله حينما خاطب القاضي ماذا أقول؟ ماذا أقول؟ وأي شيء يقال بعد كل ما قيل؟ وهل قول يقال مثل قول قيل قبل ذلك؟! كما قال الشاعر رب قولٍ قيل في قولٍ خير من قول». وذكّر شبان رئيس الحكومة بقرار الوزير الأول الأردني قال فيها «وزير أول أردني عيّن حديثاً. خرج صراحة. وقال إنه يريد إلغاء تقاعد الوزراء والبرلمانيين. أرجو أن يكون قدوة لكم». في إشارة إلى مصادقة الحكومة المغربية على الزيادة في تقاعد البرلمانيين. وقال آخر: «إن كنتم فعلاً حكومة إنصات وإنجازات كما تزعمون، لكنتم قد تفاعلتم مع الشارع المغربي الذي ازداد غليانه أخيراا». فيما علّق الباحث في الدراسات النسائية، إلياس بوزغاية، على كلام رئيس الحكومة قائلاً: «كل التضامن مع رئيس الحكومة الذي يمنعه واجب التحفّظ من ذكر إنجازاته». هموم السياسة لم تثنِ رواد مواقع التواصل الاجتماعي، من رفع وتيرة الاحتجاج على الظلم الذي تعرّض له منتخبهم المغربي من طرف الاتحاد الدولي لكرة القدم في مباراته أمام البرتغال في مونديال روسيا، بعد حرمانه من ضربة جزاء واضحة بشهادة محللين، فضلاً عن أخطاء تحكيمية أخرى، لم يتم الوقوف عليها عبر تقنية الفيديو. وفي هذا الإطار، دعا الفنان الكوميدي محمد السدراتي عبر حسابه على «انستغرام» الجمهور المغربي الذي يكون قد تابع مباراة «الأسود» الأخيرة أمام اسبانيا، بوضع شارة سود على الكتف احتجاجاً على «فيفا»، دعوة لقيت ترحيباً في «الفضاء الأزرق». ومن قلب الرياضة أيضاً، ستنبثق دعوة للتصالح السياسي بين الشعبين الجزائري والمغربي، من خلال حملة على مواقع التواصل الاجتماعي بالمغرب، تحت عنوان «تعالوا لنتصالح»، ثم تلاها نداء لفتح الحدود بين البلدين من أجل تجاوز الانحباس والجمود وإعطاء دينامية جديدة للوحدة بين الشعوب المغاربية. وجاء أيضاً في النداء، إن هذه «المبادرة تروم كذلك، خلق تكتل للشعوب المحبة لكرة القدم إقليمياً من أجل تنظيم مغاربي لكأس العالم من طرف الدول المغاربية في شكل تشاركي وتضامني، تماهياً بين الرياضة بقيمها الإنسانية وطموح المغاربيات والمغاربيين في تحقيق الديموقراطية الحقة». النداء والذي هو في طور التعديل وجمع التوقيعات، تزامن مع فكرة التنظيم المشترك لمونديال 2030، التي عبرت عنه بقوة أطراف سياسية في البرلمان التونسي، ووجد له صدى لدى رواد مواقع التواصل. إذا كانت الحالات السالفة تتمظهر على مستوى سلوكياتها ومواقفها وتفاعلاتها بـ»الفضاء الأزرق»، وتعلن عن هويتها في شكل مكشوف، وفق محللين، فإنها أحياناً لا تستطيع ذلك، إما بسبب المتاريس القانونية المفروضة، وإما بحكم إكراهات الأبعاد الأخلاقية، أو الدينية، أو القيمية، التي تحدّ من تجسّده على أرض الواقع. ومن ثَمَّ، بقدر ما قد يبدو هذا «الفضاء» مجال حرية وديموقراطية وخلاص من ضغوطات «العالم الواقعي»، فإنّه يبدو، أيضاً، «نظاماً» محبكاً لمراقبة الأفراد والجماعات، وتعميم أساليب الرقابة على حلّهم وترحالهم في الزمان والمكان. ففي السياق المغربي، برز أخيراً حدث مقاطعة جزء واسع من مكوّنات الشعب، لبعض المنتوجات، كتعبير عن احتجاجها على تردّي قدرتهم الشرائية وكرسالة عن تغوّل تحالف سلطة المال والسياسة في شكل مثير. وانطلقت هذه المقاطعة من عوالم الـ «فايسبوك»، ليكبر مداها مع مرور الوقت، ويتسع زخمها في شكل ساهم في خلق أزمة سياسية للحكومة، والتي أججت تصريحاتها وتغريدات بعض وزرائها غضب الشارع واتساع حملة المقاطعة التي باتت تهدد الشركة الفرنسية لإنتاج الحليب بالإفلاس، ما حدا بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن يطلب من سفيره في الرباط التحفّظ حول الموضوع. أمام اشتعال لهيب المقاطعة، كان من البديهي أن يتجدد السؤال، حول من يقف وراء صناعة الرأي عبر مواقع شبكات التواصل؟ وهو سؤال تصعب الإحاطة به بدقة، نظراً إلى أن العالم، الذي تحوم حوله هذه الوقائع، هو عالم افتراضي، يمكن التخفي وراءه بسهولة، لكن ذلك لا يمنع من بناء استنتاجات قد تكون قريبة من ملامسة كبد الحقيقة. وفي هذا السياق، سيطرح السؤال هل فعلاً المقاطعة تسعى إلى خفض الأسعار؟ ولماذا ركزت على مواد استهلاكية محددة؟ وهل تشتغل لأجل إصدار قانون يحمي القدرة المعيشية لغالبية الطبقات؟ هل يبادر المقاطعون إلى التقدّم بمشروع قانون ينزع مخالب الشركات المعنية وما أكثرها، ويقطع مع أساليب التسلل إلى جيوب المواطنين خصوصاً الشركات التي تستفيد من الريع؟ هل يمتلك المقاطعون مفاتيح معركة تؤدّي إلى الانتصار أم انها تظل ضعيفة جدا؟ وسيكشف واقع الحال أن أسعار المحروقات ظلت على حالها وسيستفيد المستثمرون في القطاع من تسهيلات ضريبية سيدفع المستهلك ثمنها في آخر المطاف، فيما سعت شركة المياه المعنية بقرار المقاطعة إلى خفض الأسعار موقتاً كوسيلة لامتصاص غضب المقاطعين، مع تغيير شكل عبوات التعبئة وشنّ حملة ترويجية تزامناً مع مشاركة المغرب في المونديال، هذا فيـــما تجـتاز شركة حليب «سنطرال» أزمة خـانقة، دفعـــت بها إلى الاستــغناء عن بعض العمال. سياسياً، يوجّه الاتهام في شكل ضمني لشبيبة «حزب العدالة والتنمية» الحاكم، على اعتبار أنه كان استقطب رجال أعمال إلى صفوفه إبان حكومة عبد الإله بن كيران، لكن سرعان ما ستتراجع الحملة لتقترب أكثر من عزيز أخنوش وزير الفلاحة (الزراعة) وزعيم حزب الأحرار، الــذي تــراهن عليه الدولة لقيادة المرحلة المقبلة. وبغض النظر عن صحة هذه القراءة، فإن اقتصاد الريع وتحالف السلطة والمال، وتجميد مؤسسة المنافسة ومراقبة الأسعار، فضلاً عن حرية تبادل المعلومات والمعطيات التي توفرها شبكة التواصل، حول بعض الشخصيات العامة ومؤسساتها الاستثمارية، عناصر كان لها النصيب الأكبر في انخراط الناس في عملية المقاطعة، التي ستتسع بعد تصريحات وزراء، والتلويح بالعقوبات السالبة للحرية لمن اعتبرتهم بمروّجي الأخبار الزائفة، والتي ستعيد إلى الأذهان، معركة اتخذت لها في عام 2013 مسمّى «عصيان إلكتروني» ضد «المدوّنة الرقمية» التي كانت تعتزم الحكومة التصويت عليها قبل أن تتراجع تحت وطأة حملة النشطاء الاحتجاجية ضد ما يعتبرونه «تضييقاً على حرية الرأي والنشر عبر الإنترنت». ويقدّر عدد مستخدمي تقنيات التواصل الاجتماعي في المغرب بحوالى 16 مليون شخص، ما ساهم في سرعة انتشار المعلومة وقوته مقارنة بوسائل الاتصال الكلاسيكية. كما فسح باباً أوسع لمساحات التعبير، وإبداء الرأي، والدفاع عن هذه الحريات، والتي أضحت موضع نزاع بين طرف يسعى إلى ممارسة حقه في التعبير وإبداء الرأي، وآخر يعمل على تقويض هذه الحرية قدر المستطاع. ووفق تقرير لمنظمة «فريدوم هاوس»، لم ينجح المغرب في أن يرتقي إلى لائحة بلدان تتمتع بحرية الأنترنت الكاملة، بقدر ما سيصنّف ضمن البلدان التي توفّر حرية جزئية. وتنص القوانين المحلية على الحق في الاتصال وفي الارتباط بالشبكة، وكذا حرية تداول المعلومات والمعطيات وحماية الخصوصيات والبيانات الشخصية، حماية حقوق المؤلف والملكية الفكرية (...)، وكذا قوانين التعبير التي ينظمها (قانون الحق في الولوج إلى المعلومة 31.13، مدوّنة الصحافة والنشر 88.13، القوانين المنظمة للسمعي البصري 77.03، القوانين المتعلقة بتقديم العرائض والملتمسات...). لكن على رغم ذلك، لا تعفي الدولة نفسها من مراقبة الانترنت و»التجسس» على خصوصية مستعمليه خارج إطار القانون ومن دون أحكام رقمية، لكن في إطار الرقابة لأسباب تخص بالدرجة الأولى الإستخبارات وحماية الأمن القومي. من جهة أخرى، بات عرض تفاصيل الحياة الخاصة للأفراد عُرفاً شائعاً على مواقع التواصل، وهو ما يُخلّف ردود فعل متناقضة بين التأييد والاستهجان. فيومياً، يحفلُ موقعا «فايسبوك» و»تويتر» بصور ومحادثات مسجلة وفيديوهات كثيرة، في انتهاكات واضحة للحريات الشخصية سواء للأشخاص العاديين أو المشهورين في المجال السياسي، الثقافي والفني خصوصاً. كما أن مواقع إخبارية لا تستطيع الفكاك من أسر جمهور شبكة التواصل، بل تجعل منه أحياناً مصدراً للمعلومة ولا تلزم نفسها بالتحرّي عنها، وعوض صناعة خبر يحترم ذكاء المتلقّي ويرفع من حمولته الثقافية، تسقط في الإثارة ودغدغة العواطف. وبذلك يتحوّل «فايسبوك» أو «تويتر»، من موقع لنشر الخبر والتعبئة له، وللنقاش أيضاً، إلى مصدر من مصادر الخبر من دون اعتماد التدقيق به وفق فرضية النفي أو التأكيد، وبالكشف عن الحقائق الزائفة والشائعات والتي تأخذ شكل المعلومات بما فيها (الصور والفيديوهات المفبركة)، باستثناء ما يندرج في إطار السخرية السياسية والاجتماعية، شرط ألا تتضمن إساءة ذات أبعاد عنصرية أو تحقيرية للمرأة أو الأشخاص في وضعية صعبة. هذه الإشكالات ذات الصلة الوثيقة بالصحافة والنشر من جهة وبالتطور السريع لحرية التعبير على منصات التواصل الاجتماعي، في علاقة بالمسؤولية الأخلاقية، هي الآن موضوع جدل، وجد له أخيراً الإطار المناسب لصوغ منظومة تشريعية تربط الحرية بالمسؤولية، ونعني بذلك المجلس الوطني للصحافة الذي خرج إلى حيز الوجود بعد انتخاب أعضائه أخيراً، ويتألّف من 21 عضواً، سبعة أعضاء انتخبهم الصحافيون المهنيون، وسبعة انتخبهم ناشرو الصحف، وسبعة آخرين هم ممثل عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ممثل عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ممثل عن المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، ممثل عن جمعية هيئات المحامين في المغرب، ممثل عن اتحاد كتاب المغرب، ناشر سابق تعيّنه هيئة الناشرين الأكثر تمثيلية وصحافي شرفي تعيّنه نقابة الصحافيين الأكثر تمثيلية، إضافة إلى تعيين الحكومة مندوباً لها مهمته التنسيق بين المجلس والإدارة.
مشاركة :