مازالـــت الثقافـة نــتاج فكـــري طبقـــيمازالـــت الثقافـة نــتاج فكـــري

  • 7/3/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

الثقافة في تجردها وبالمنظار المطلق تُشْعِرُ الإنسان بالرقي والجمال والكمال وبالانسانية في كامل بهائها؛ فالثقافة بهذا البعد التجريدي المطلق هي الأبهى في ملكوت البهاء؛ وهذه مثالية يدحضها الواقع الموضوعي ومثالية لا يمتثل إليها واقع الإنسان المعاش، واقع الحياة، واقع التعدد الفكري الناتج من تعدد المصالح، وتعدد المصالح من تعدد الطبقات الاجتماعية، ويشهد التاريخ أن هذه الطبقات ومنذ نشوئها وهي في صراع، وهذا الصراع ينتج فكرًا يبرر السلوك الطبقي ويدعم مواقعه الطبقية. وهذه الطبقية بصراعها الطبقي هي السائدة بين الشعوب المختلفة؛ ففي جسم كل شعب وكل وطن وكل قومية هناك بشكل عام ثقافتان، ثقافة المالك وثقافة المملوك او الذي لا يملك. فهل هناك إذًا ثقافة قومية واحدة متناغمة، ثقافة وطنية واحدة متماسكة، ثقافة تجمع بين الطبقات المختلفة في بوتقة واحدة تسودها روح المساواة والأخوة والمحبة؟ إن كان الجواب نعم، فإنها مثالية مشبوهة ترفضها روح المثالية ذاتها، لأن هذا الجواب بنعم يحمل في ثناياه المخفية كذبة كبيرة وخديعة أكبر وجريمة بحق الثقافة والإنسان. فرغم أن الثقافة بروحها المجرد هي ثقافة إنسانية، إلاّ أن المصالح الطبقية شطرتها إلى ثقافات متعدد ومتناقضة على هوى المصالح الطبقية، وحتى ما يندرج تحت المصالح الفئوية والطائفية والقومية، هي في واقعها مصالح طبقية؛ وهذه المصالح الطبقية أخذت بالثقافة إلى المنحى الأممي. وأممية الثقافة لا تعني أبدًا إنسانية الثقافة. فهذه الأممية متجذرة في معترك الصراع الطبقي؛ أممية بمعنى وحدة الطبقات البرجوازية عالميًا في مواجهة أممية مناهضة لها وهي وحدة الطبقات المنتجة عالميًا، فنداء المفكر التاريخي والتقدمي العظيم كارل ماركس «يا عمال العالم اتحدوا»، جاء ليطرق مطرقة الوعي على طاولة عمال العالم كي يعوا أن هناك «اتحادًا برجوازيًا عالميًا» يعمل من أجل ديمومة الهيمنة البرجوازية وبيدها أدوات النهج الرأسمالي. إن الذي نادى به كارل ماركس هو بمثابة فتح أبواب الوعي الإنساني على واقع الصراع الطبقي ومنه الصراع الثقافي؛ لا يمكن لأي صراع إلاّ أن يكون بين طرفين متناقضين، ولا يمكن لأي طرف في هذا الصراع إلاّ أن يفرز ثقافته الخاصة بموقعه في الصراع، فينجم من الصراع على ساحة الوغى صراع مماثل على ساحة الثقافة... فالثقافة ليست وحدة متكاملة، بل هي متعددة الوجوه والأسباب والأهداف؛ حتى اللوحة الجمالية والقصيدة الشعرية والرواية تحمل خيوطًا تعبر عن واقع صاحبها الطبقي... وبين الثقافتين هناك ثقافة متأرجحة تمد يدًا إلى اليمين ويدًا إلى اليسار، وتتسمى بثقافة الفوق-طبقي، ورغم ما لها وما عليها فمن الأولى النظر إليها إيجابيًا بالمنظار القبولي أو النقدي، فاكتساب هذا الوجه الثقافي يضيف إلى رصيد الثقافة الأممية، وهذا يعني أن كل طرف في الصراع يعمل على كسب ود هذه الثقافة المتأرجحة (الفوق-طبقي). مازالت روح الثقافة على رقع العالم المتخلف تعاني من بطش الاستبداد ضد الفكر الحر، وتبكي ضحايا الفكر المستنير من خناجر التخلف... هذا هو واقع الفكر، فكرٌ مضيءٌ وفكرٌ مظلمٌ، في فضاء الثقافة في وادٍ من أودية التخلف في بقاع كثيرة من العالم ؛ وحتى العالم المتقدم مازال الصراع فيه بين فكر وفكر، بين وجه ثقافي ووجه ثقافي آخر، ولكن دون المساس بأصحاب الفكر المناقض والمخالف؛ هذا هو واقع حال الثقافة بين أوجه ثقافات مختلفة ومتناقضة في ربوع وطن واحد وبين أبناء وطن واحد؛ وجميع الشعوب تعاني الثقافة فيها من هذا الصراع بين فكر وفكر، بين رأي ورأي، بين مصلحة ومصلحة، بين طبقة وطبقة... وبيت القصيد والفهم الدقيق لواقع الثقافة هو التعدد الطبقي والعلاقات المتناقضة بينها على ساحة المصالح ؛ فللبرجوازية ثقافتها، وللطبقات الشغيلة والمنتجة ثقافتها، ولا يمكن أن تتناغم ثقافة الثري مع ثقافة الفقير، ولا يمكن أن تتعانق ثقافة المُسْتَبِدِّ مع ثقافة المُسْتَبَدِّ؛ فهنا النقيض أمام النقيض، هنا الصراع الثقافي بين الذين يعبثون بمقدرات الأوطان والذين يذودون عن كرامة الأوطان. وهذا صراع عالمي كوني تتساوى فيه جميع شعوب العالم؛ فمن هذا المنظور الواقعي الذي تدعمه تجارب الانسان عبر التاريخ، فإن حال الثقافة، حال الصراع الثقافي، متشابه بين جميع القوميات والأمم ؛ فليست هناك ثقافة قومية واحدة متوحدة متناغمة متآلفة، بل إن القومية الواحدة، وهذا ينطبق على جميع القوميات، تعيش صراعًا ثقافيًا منبعه الصراع الطبقي؛ فالمصالح الطبقية تفرض نفسها وتفرز أنماط ثقافاتها. ومن واقع هذه الطبقية في التعدد الثقافي في الوطن الواحد وفي الأمة الواحدة، فإن ثقافة طبقة اجتماعية في وطن من الأوطان تتناغم مع ثقافة طبقة مماثلة في بقية الأوطان؛ فالثقافة البرجوازية في الشرق تتناغم مع الثقافة البرجوازية في الغرب، وبرجوازية الشرق توأمٌ مع برجوازية الغرب، والبرجوازية عضيدة لأخواتها في بقية دول العالم، فهذه البرجوازيات بثقافاتها المتشابهة والمتناغمة تقف في صف واحد وقفة العدو ضد الطبقات المنتجة التي تستغلها تلك البرجوازيات. ويتوازى هذا الصراع الثقافي-الطبقي مع نمط آخر من الصراع وما ينتجه من ثقافة ؛ الصراع بين الانغلاق في إرث الماضي والانطلاق تقدمًا إلى الأمام بكل ما يحمله هذا الأمام من تغيير وتطور، وحتى محو لبعض من ثوابت الإرث. كلنا نعلم بما يجري في مصر، أم الدنيا، من صراع بين ثقافتين، ثقافة يحمل لواءها التنويريون أمثال نجيب محفوظ وطه حسين وتوفيق الحكيم وفرج فودة ونصر حامد أبوزيد، وما ينتج من هذا الصراع، حيث اغتيل المفكر فرج فودة وتعرض نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال وتكفير نصر حامد ابوزيد ومحاربة طه حسين... عام 1938 أصدر طه حسين كتابه التنويري «مستقبل الثقافة في مصر» يرسم فيها خارطة طريق تنطلق من مناهج التعليم الى منابر الثقافة، فتصدى له في العام نفسه ودون تأخير سيد قطب في كتاب ناقد مناهض مناقض يدحض فكر طه حسين، وكلنا نعلم قصة كتابه «في الشعر الجاهلي» وما آل إليه الكتاب من مصادرة واضطرار عميد الأدب العربي وحامل مشعل الفكر الحر أن ينصاع ويسلم بعضًا من حرية فكره حفاظًا على حياته، وكذلك الأمر بالنسبة لرواية «أولاد حارتنا» لسيد الرواية نجيب محفوظ... في أوروبا، ونأخذ بريطانيا، وهي الأقرب إلينا معرفيًا، مثالًا؛ فحزب المحافظين اليميني ينشر ثقافة مفادها أن الاشتراكية سجن وكبح للحرية، وعلى النقيض من هذه الثقافة البرجوازية ينشر حزب العمال ثقافة مفادها أن الاشتراكية هي الحل وأن الرأسمالية، وخاصة بنهجها الامريكي، هي العائق أمام السلم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية ؛ وفي أوروبا بشكل عام هناك ثقافة اليمين وثقافة اليسار، والانتخابات في الساحة السياسية خير دليل على ذلك... في أمريكا، الدولة الكبرى وسيدة الرأسمالية، تعاني من صراع حاد بين ثقافتين، ويمكن أن نختزل هذا الصراع في الإنتاج السينمائي في هوليود حيث مازلت مدرسة تشارلي چابلين اليساري تقارع مدرسة رونالد ريغان اليميني. جميع دول العالم وجميع الشعوب تعيش هذا الحال من العلاقة بين طبقية المجتمع وطبقية الثقافة، وأن الطبقات الاجتماعية المتشابهة في العالم تتعاضد وتفهم بعضها بعضًا، فعمال العالم يعيشون واقعًا ثقافيًا شبه موحد امام وحدة ثقافية تعيشها برجوازية العالم. تحت وطأة هذا الصراع الطبقي لا يمكن أن تكون هناك ثقافة قومية واحدة وحيدة تعبر عن وحدة أمة في كمال الأخوة والمحبة والتآزر، ولا ثقافة وطنية واحدة متماسكة لا تشوبها اختلافات في الرأي والرؤى... الثقافة القومية متجزَأة والثقافة الوطنية متجزَأة، وهذا هو حال الشعوب والدول مع واقع الثقافة، وهذا هو حال الثقافة مع الشعوب. وليس من العدل أن نُحَمِّلَ الثقافة أكثر مما ينبغي، ولا نسبغ على الإنسان في بوتقة الأمة الواحدة أخوة وهمية وودًا غائبًا ووحدة متشظية... إن الواقع مهما كان مرًا لا بد أن نقر به، ونكون صادقين مع أنفسنا، حتى نستطيع أن نعبر العوائق إلى بر الأمن والأمان. فهل هناك في أفق الزمان ما يمكن تحسسه أن المستقبل سيحمل ذات يوم ثقافة إنسانية واحدة تعبر بصدق وواقعية عن روح سائدة تفوح منها طيبات الود والمساواة والأخوة؟... أسفًا، ليس هناك من بصيص ضوء في نهاية النفق الزماني الذي هو في مرمى رؤية الإنسان ورؤاه...

مشاركة :