قبل ستة أشهر كان مقهى البستان الشهير بوسط البلد يفقد واحدًا من أشهر رواده. قبلها بستة أشهر أخرى كان يحتفي مع آخرين -دون أن يعرفوا- بآخر أعياد ميلاد "عمدة وسط البلد"، الذي ودّعنا قبيل نهاية العام الماضي تاركًا عالمنا وحكايات عدة جمعها مع مقتنياته في وسط البلد غير آسف. تحوّلت ابتسامته إلى جدارية كبيرة موضع جلسته الشهيرة، بعدما رحل دون أن يُلقي السلام على من أحبوه، والذين يتذكر أغلبهم اليوم أين شاهدوا تحيته للمرة الأولى.بدأ مكاوي في تحسس موهبته وسط تغيرات هرمونات المُراهقة، كان ينمو بأشياء لم يكن يدركها كطفل، هكذا امتدت يده للقلم فكتب من خلال كتابة بعض الخواطر أشبه بالشعر، الذي كان خطوة أولية في التعرف على الموهبة التي لم يُدرك حينها إلى أين ستأخذه، وهي المقاطع التي شبهها بعد ذلك بسنوات في واحد من أحاديثه بأنها "أشبه بتدوينات مواقع التواصل الاجتماعي"؛ حينها قال "لم يكن الأدب في المرحلة الثانوية إلا موهبة، فلم أتخيل أني سأمتهنه طوال حياتي، لذا كتبت وخضت غماره إلى جانب دراستي، والتي لم تؤثر فيّ بشكل من الأشكال".لكن فيما بعد، ومع دخوله الجامعة، بدأ "ميكي"، وهم الاسم الذي اعتاد عليه رفاقه ومحبيه، يكتب الشعر الذي أثار إعجاب زملائه، ما شجعه على التنافس والاستمرار حتى صار شاعر الجامعة "وحصلت على جائزة من الجامعة نفسها، ولكنني شعرت أنني لن أضيف جديدًا إلى هذا الفن، لذا قررت التوقف عنه ومن ثم كتابة القصة"؛ هكذا قال عن ذلك التحول إلى السرد في السنة الأخيرة في الجامعة عبر محاولة قصصية، وفي ذلك الوقت كان يتردد على مقهي "علي بابا" الشهير في ميدان التحرير آنذاك، وهناك قرأ قصته الأولى، يحكي "وإذا بتوفيق حنا ينتحي بي جانبًا ويخبرني أن القصة مبشرة جدًا وأن عليَّ أن أستمر في كتابة القصص".كانت شهادة الرجل الذي اكتشف عبدالرحمن الأبنودي وأمل دنقل وعبدالرحيم منصور كفيلة بأن يُعيد الشاب المتحمس حساباته "قلت لنفسي: لن أستطيع أن أنافس في الشعر، وقلت أيضًا: سأعمل على مجموعة قصصية وأنحي الشعر جانبًا"؛ حينها كتب مجموعته الأولى "الركض وراء الضوء"، وكأي وافد جديد كان في حاجة إلى من يقدمه إلى أولئك الذين قرر الانغماس وسطهم من الأدباء والنقاد "فكرت في أن أطلب من يحيى الطاهر عبدالله أن يكتب المقدمة. غير أنني خفت، فقد كان حاد الطباع. كتب لي المقدمة صلاح الراوي. يحيى الطاهر لما عرف بعدها عاتبني بمحبة وأخذ قصة من المجموعة ونشرها في مجلة "الدوحة". كانت أول قصة منشورة لي، وعرفت أن طباعة المجموعة ستتكلف 200 جنيه وأنا لا أملك غير 20 جنيهًا ويصعب أن أقنع أسرتي بالمساهمة، فكان عليَّ أن أعتمد على الأصدقاء".فتحت المجموعة شهية الراكض وراء الضوء ليكتب روايته الأولى، التي اختار لها عنوان "فئران السفينة"، والتي في البداية اعتقد أنه يُمكن نشرها بواسطة الهيئة العامة للكتاب عبر واحدًا من أصدقاءه "لكن بعد مرور ستة أشهر اكتشفت أنها لا تزال في درج مكتب صديقي، تأثرت جدًا وغضبت فأخبرتني موظفة في الهيئة ذاتها بأن هناك مسابقة أدبية يمكنني أن أشارك فيها"؛ كان هذا البديل مُناسبًا له فأرسل ثلاث نسخ إلى مسابقة الدكتورة سعاد الصباح "ومرت شهور عدة، وإذا بأحدهم يبلغني هاتفيًا بأني الفائز".في الوقت نفسه كان لابد للرجل أن يكسب عيشه، فانغمس في مجال المحاسبة المالية، وعمل أيضًا في المقاولات لمدة 15 عامًا، كتب خلالها ثلاث مجموعات قصصية، وصفها هو بنفسه يومًا بأنها كانت تشبه الأدب الروسي الذي تأثر به بشدة، وظل في هذا العمل حتى وصل إلى منصب المدير المالي؛ عندها قام بتغيير جديد مُقررًا أن يتفرغ للكتابة، فترك الوظيفة وعمل في شركة إنتاج سينمائي لمدة عامين، خلالهما كان يكتب روايته الثانية التي أعطت حياته طريقًا أكثر تسليطًا للأضواء على السائرين فيه "تغريدة البجعة"، والتي وصل صيتها بعيدًا، لتستقر في القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر"، والتي كانت حديثة العهد آنذاك، لكن صداها يتردد في أسماع المثقفين في كل مكان يتحدث العربية.اعتاد مكاوي الكثير من الصمت حتى وسط الزحام، عُرف بتفضيله الجلوس على المقهى الذي صار واحدًا من علاماته "زهرة البستان"، متفاديًا الخوض في حوارات المثقفين حول الأدب والثقافة. عزا هذا يومًا إلى نوع من التشبع في نفسه بعد أعوام من الانخراط في الحياة الثقافية أثناء دراسته الجامعية، أيامها كانت الساحة أكثر انفتاحًا للنقاش، فكان يحضر العديد من الاجتماعات والندوات، وكان ورفاقه يشكلون شللا ثقافية وتنظيمات شبه سرية؛ وبحلول منتصف الثمانينات، لم يعد يغريه حضور ندوة أو نقاش حول قضية أدبية أو ثقافية "وقتها تعلمت أن الأكثر فائدة بالنسبة للكاتب ليس الاهتمام بالآراء النقدية الخاصة بنقاد كل همهم الجري وراء الموضات الغربية، وإنما الأكثر فائدة هو تذوق الكتب الجيدة، ولهذا اتجهت لقراءة أغلب الآداب العالمية والكلاسيكيات الغربية والروسية. وتأثرت بشكل خاص بيوسف إدريس".لم يُخفي الرجل الذي أنفق عمُرًا في تجميع مقتنيات وسط البلد رأيه في أن أعظم من كتب القصة القصيرة العربية هو يوسف إدريس، قيل له في بعض الأحيان أنه يُشبهه، لكنه كان يتقبل التشبيه متواضعًا ومؤكدًا أن هذا أمر يُحسب له، فيما كان بعيدًا عن من يكتبون بالعربية أكثر إعجابًا بعمالقة كتبوا بالروسية، تشيكوف وجوجول، لكنه فُتن بمكسيم جوركي الذي رآه ينقل له الواقع الروسي ومعاناة الفلاحين والعمال هناك دون أن يراهم "لدرجة أنني شعرت بأن هذه القصص تغنيني عن قراءة أي كتب تاريخية أو اجتماعية في هذا الموضوع"، عبّر هذا الميل بوضوح عن اهتمامه بالكتابة عن المهمشين وأصحاب الصراخ الصامت ممن لا يملكون أداوات لدفع مآسيهم بعيدًا. أدرك هذا وخاض فيه، فزادت قناعته بأن الكتابة الجيدة هي ما تُشعر المتلقي بأن ما كتب كان حقيقيًا وصاحبها كتب هذا عن نفسه، أو ممن عايشهم في الواقع.مع رحيله بعد كسر حاجز الستين تأكدت لنا رؤية صاحب السر الصغير في أن يكتب أكثر وبغزارة، شعر هو الآخر أن الزمن قد سرق منه لحظاته حقًا، خُدع في البداية عمدما عاش فترة طويلة متوهمًا أنه لايزال خريجًا في الجامعة منذ عام أو عامين فأهمل ضرورة النشر، أو كان غير مهتم ما جعله ينشر على فترات متباعدة، وركز جهده في العمل في الكتابة التلفزيونية الوثائقية -كما كان يقول- لكن "فجأة اكتشفت أنني أقترب من الخمسين، فتنبهت ووجدت أن موقعي على خريطة الأدب العربي لا يرضيني ولا يتوافق وحلمي الذي رافقني بعد التخرج. هذا إلى جانب أصدقائي الذين فوجئت بهم يتساقطون من حولي واحدًا تلو الآخر، إما بالموت أو بالفرار والهجرة، فقررت الكتابة عنهم، ولهذا تناولتهم جميعًا في تغريدة البجعة".
مشاركة :